الإمام الحسين (ع) عبير البطولة وعطاء لاينضب

الإمام الحسين (ع) عبير البطولة وعطاء لاينضب
الثلاثاء ١٢ نوفمبر ٢٠١٣ - ٠٦:٢٦ بتوقيت غرينتش

عندما أيقن الإمام الحسين عليه السلام في اليوم التاسع من محرم، من انه لامناص من المواجهة لانه لاعودة له ولارجوع عن القرار (ان مثلي لايبايع يزيد) فان کان ولابد؛ فما زال يردد القول "لا أری الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما" ومازال يحمل شعاره الذي ورثه عن جده رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم، وخاطب به الجيش الاموي قبل ايام:

(ايها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رأی سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله، ناکثا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول کان حقا علی الله أن يدخله مدخلة).
يئس الإمام الحسين عليه السلام من هذا القطيع المسلوب الوعي والارادة الاهث وراء المغانم والحطام فطلب من اخيه العباس عليه السلام، ان يفاوضهم علی اعطائهم عليه السلام مهلة تمتد طوال العاشر من المحرم ليعطي قراره الحاسم، عرض العباس ذلك الطلب فوافق عليه عمر بن سعد وارکان جيشه ان يمهلوا الحسين عليه السلام ليلة واحدة.   
ولم يکن طلب الحسين عليه السلام تأجيل قراره الی غد لغرض التفکير في الامر وحساب الموقف فانه قد فرغ من ذلك وبدا کل شیء امامه واضحا، انما اراد ان تکون هذه الليلة -وهي آخر ليلة له من الدنيا- ليلة عبادة ودعاء وليلة وداع ووصية مع الاهل والاحبة فهو يدري مايخبئه الغد.
جن الليل وارخی الصمت سدوله وهدأ الطير والهوام ونامت جفون الخلائق کلها، ألا آل محمد صلی الله عليه واله وسلم وانصارهم، باتوا ليلتهم بين داع ومصل وتال للقرآن ومستغفر، بين مودع  وموص باهله وبابنائه ونسائه، فکان لهم دوي کدوي النحل وحرکة واستعداد للقاء الله سبحانه يصلحون سيوفهم ويهيؤون رماحهم.
باتوا تلك الليلة ضيوفا علی الرحمن في أحضان کربلاء وبات التاريخ أرقا ينتظر الحدث الاکبر ومايتمخض عن ميلاد الصباح ..فغدا سيخط بمداد الدم المقدس القاني اروع کتاب في عمر الانسان واکبر مجزرة في التاريخ البشري وافجعها علی مر العصور والدهور الی يوم القيامة. 
الحسين عليه السلام يودع اهله واحبائه ويوصي آخر وصاياه ويعهد بآخر عهد له وقد استسلم للقدر وباع نفسه لله وقرر أن يسقي شجرة الهدی والايمان بغزير دمه وفيض معاناته.
مضت تلك الليلة ومضی معها تاريخ طويل وها قد ولد اليوم العاشر من المحرم يوم الدم والجهاد والشهادة يوم اللقاء والمصير، هو اليوم الذي أقبل يستمطر السماء دما ودموعا على فراق العترة الطاهرة.
نظر الحسين عليه السلام الی الجيش الزاحف وتأمل به طويلا ولم يزل الحسين کالجبل الشامخ فقد اطمأنت نفسه بذکر الله تعالی وهانت دنيا الباطل في عينه وتصاغر الجيش امامه فلم ترهبه کثرة اعدائه وتدافع سيوفهم ورماحهم نحوه ونحو بيت اهله واصحابه فاتجه نحو ربه رافعا يد الضراعة والابتهال الی الله تعالی وراح يناجي:
(اللهم انت ثقتي في کل کرب، وانت رجائي في کل شدة، وانت لي في کل امر نزل بي ثقة وعدة. کم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو انزلته بك وشکوته اليك رغبة مني اليك عمن سواك ففرجته عني، فانت ولي کل نعمة وصاحب کل حسنه ومنتهی کل رغبة).
کانت تلك البداية منطلق الکارثه التي ذهب ضحيتها سليل النبوة وامام المسلمين الحسين بن علي بن ابي طالب سبط الرسول الاکرم صلی الله عليه وآله وسلم وريحانته.
وهکذا بدا شلال الدم الطاهر ينحدر علی ارض کربلاء وسحب المأساة تتجمع في آفاقها الکئيبة وتساقط الشهداء من اصحاب الحسين واهل بيته عليه السلام الواحد تلو الاخر...وجاء دور ذخيرة علي ليوم الطف ونصرة الحسين في کربلاء..وسقط العباس كذلك، وهو يسبح بدم الشهادة ويثبت لواء الحسين الذي حمله يوم عاشوراء في ارض کربلاء الی الابد لا تبليه الايام ولا تطأطیء هامه للطغاة.
وراح الحسين يناجي ربه (اللهم اني اشکو اليك مايفعل بابن بنت نبيك).
نظر الحسين عليه السلام الی ما حوله مد بصره الی اقصی الميدان فلم ير احدا من اصحابه واهل بيته الا وهو مضرج بدم الشهادة مقطع الاوصال فراح يردد کلماته الخالدة:
سأمضي وما الموت عار علی الفتی         إذا ما نوی حقا وجاهد مسلما   
وواسی الرجال الصالحين بنفسه            وفارق مثبورا وخالف مُحرما 
فان عشت لم اندم وان مت لم الم            کفی بك ذلا ان تعيش وترغما
اذن هذا هو اليوم الموعود الذي اخبر به رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم وتلك هي تربته التي بشر بها من قبل.
عانق الحسين عليه السلام صعيد الطفوف، استرسل جسده الطاهر ممتدا علی بطاح کربلاء، ويجري من شريان عنقه شلال الدم المقدس إلا أن روح الحقد والوحشية التي ملأت جوانح الطغاةلم تکتف بذلك الصنيع ولم تستفرغ احقادها الجاهلية في حدود هذا الموقف، بل راحوا بقطع الراس الطاهر من جسده الشريف وقطعوا غصنا من شجرة النبوة، الراس الذي طالما سجد مخلصا لله وحمل اللسان الذي مافتیء يردد ذکر الله تعالی وينادي (لا اعطيکم بيدي اعطاء الذليل ولا اقر اقرار العبيد).
فالحسين مر خلال کل هذه الفترة نشيدا يتغنی به الاحرار، والحسين مر خلال هذه الفترة حقا يرهبه الباطل، الحسين مر خلال هذه الفترة ثروة تغنی بها الشعوب اذا ماتت فيه الضمير. 
فالحسين عاش مند لحظة ولادته الی يومنا هذا..وکم سيعش في المستقبل؟.. وقطعا انه سيبقی مابقيت الدنيا وسيظل خالدا ما بقي الخلود، فان المبدأ الحر لا يُقتل، وکل عرق قطعوه من عروقك سيدي لهو بوجه الظلم والغي صارم مسلول...اکثر من اربعة عشر قرن مر  والاجيال تراك سيدي ابا عبدالله حيا لاتموت، لان الانبياء والائمة والشهداء لايموتون..ان عطر شهادتك تعطر الدنيا بأريجها.. وهل صنع الحياة في الدينا الا الشهداء؟.. ستبقی الدنيا مدينة للشهداء.. فالشهداء أحياء مهما امتدت الدنيا...وما اکثر الاعمار وهي تمر خالية بالامجاد في حين يوم واحد مملؤ بالامجاد لهو کل الحياة.. فالحسين عطاء بلا حدود، وعطاء لاينضب للاسلام وللانسانية کلها، قبل ان يکون عطاء لفئة.. الحسين ومضة من محمد.. الحسين روح ممتد من محمد.. الحسين موقف من محمد..الحسين نبع طاهر من علي وفاطمة..فکل مسلم واع ما مد يديه الی هذا النبع الا وارتد مملوءا بالعطاء..الحسين حمل الشهادة علی يديه شعار وعنوانا وشمعة يبدد بها ظلام الاستبداد والطغيان والجهل.  
فسلام عليك ياعبير البطولة..والسلام علی التراب الذي رفع المبدأ لواءا تمر الانسانية به فتسجد لبريقه وروعته اجلالا واکبارا.    
والسلام علی تلك البقاع وعلی شواطیء نهر شهدت شفاه عطشی وقلوب حری ولکلنها شبعت من رحمة الله وأرتوت من عطاء الله...ثم السلام علی تراب شهدت دمعة لنساء ولکنها لم تکن بدمع بل نار احرقت الظالمين...والسلام علی رمال شهدت صرخة لامرأة عزلاء ولکنها کانت ولاتزال سيفا بتارا علی الطغاة بجانب سيف اخيها الحسين.     
فتحية الی ذلك الصوت الهادر والی ذلك الثغر الذي ماتلکأ ولا حل به فأفأة ولاخمدت له نبرة..وکان ولايزال صوت العزيمة، صوت الحق والذي امتد عبر التاريخ وسيبقی ولهذا الصوت اصداء، ومهما حاول الظلم والظالمون ان يکبوا هذا الصوت فسيتمرد علی الکبت لانه صوت الحق صوت العدالة.
وتحیة أخری أبا الشهداء نرفعها إلی الهام الذي أبی ان يرکع الی الطغاة ..نرفعها إلی الجبهة التي أبت السجود الا لخالقها..ابت ان تظهر عليها سمات الخضوع للظلم والخنوع للطغيان...بل وقفت رغم السيوف التي تکاثفت عليها وبالرغم من السهام والألم التي نالها...وان الرمح الذي رفع هامتك انما رفع هامة المجد وجبهة الکرامة ولم يرفع هامة خانعة ولم يرفع راسا ذل للطغاة.. بل سيظل راسك سيدي مرفوعا مابقي الدهر.
فتحية إلی ذلك الجبين المشرق وتحية إلی تلك الجبهة التي ظلت عليها بصمات شفاه النبي يوم کان يشبعها لثما وتقبلا ويسکب عليها من عطفه وروحه ويسجل عليها شعاره (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي علی أن أترك هذه الدعوة مافعلت) وقد احتفظت تلك الجبهة بذلك الشعار وعاشت عزيزة کريمة مرتفعة لانها ابت الا العلو..
أبا الشهداء لقد وضعت علی جبهة کل يزيد في کل عصر وصمة عار.. فانت عز لايذل وانت کرامة لاتهون.
واسمح لي أبا الشهداء أن أرفعك إلی جدك المصطفی دماء علی أطراف السنة وجسدا قطعته السيوف وعظاما هشمته سنابك الخيول وان أعرضك لامك الزهراء هذه الايام، دموعا من أختك التي احست بفراقك وتعلقت باهداب ثوبك وتريد ان تنتزع منك کلمة لتکون سلوی لها ولباقي النساء من بعدك لانها کانت تشعر بان هذا الجبين سيفارقها واسمح لي سيدي ان ارفعك إلی أبيك علي بن أبي طالب مقطوع الراس مذبوح من الوريد الی الوريد..
السلام علی من الاجابة تحت قبته السلام علی المرمل بالدماء السلام علی غريب الغرباء السلام علی من بکته ملائکة السماء السلام علی الشفاء الذابلات السلام علی الاجساد العاريات السلام علی الدماء السائلات السلام علی الرؤس المشالات السلام علی المجدلين في الفلوات السلام علی من نکثت ذمته، السلام علی من اريق بالظلم دمه، السلام علی المغسل بدم الجراح، السلام علی المنحور في الوری، السلام علی الشيب الخضيب السلام علی الخد التريب..السلام عليك يامولاي وعلی الملائکة المرفرفين حول قبتك الحافين بتربتك الطائفين بعرصتك الواردين لزيارتك ورحمة الله وبرکاته.. .