ما قبل «بريتال» ليس كما بعدها

ما قبل «بريتال» ليس كما بعدها
السبت ١١ أكتوبر ٢٠١٤ - ٠٢:١٩ بتوقيت غرينتش

لا يختلف اثنان من اللبنانيين على القول بأن الخطر التكفيري الذي يتهدد لبنان بات يلامس تخوم الانفجار. معركة الجرود الاخيرة في السلسلة الشرقية، وما سبقها من معركة عرسال، قد وضعتا لبنان على خط المواجهة المفتوحة مع الارهابيين الذين انتقلوا، في اعتداءاتهم، من الاستهدافات الامنية المحدودة الى الهجمات العسكرية المتتالية .

المعركة في جرود بريتال ليست سوى فاتحة عهد جديد من الغزوات الارهابية التي سيصار الى تكرارها بمزيد من التصعيد وعلى نطاق أوسع في أكثر من منطقة لبنانية. وبرغم هذا المستوى من الخطورة، تعيش البلاد على انقسام في ظل انعدام الرؤية والموقف الموحد، في حين كان من المؤمل طغيان الوحدة الوطنية بين اللبنانيين على ما عداها من خلافات داخلية.
 

لقد كشف الوضع القائم عن أجندة الثوابت والأولويات لدى فريق «14 آذار» في لبنان. الثابت الذي لا يتبدل عند هذا الفريق هو خصومته للمقاومة. والاولوية عنده التي لا أول قبلها هي نزع سلاح المقاومين حتى لو أصبح هذا السلاح ضرورة واجبة الوجود لدفع الخطر الداعشي عن لبنان. ففي زمن الزحف التكفيري، تصبح استراتيجية «ثوار» الأرز أكثر وضوحاً في اعتبار خصومة المقاومة فوق كل اعتبار. الخصومة هذه في العقيدة الآذارية دائمة، ضرورية، كلية، عابرة للظروف والازمنة ومتحررة من أي حيثية أو شرط، وغير قابلة للتأجيل والمهادنة.


قبل الآن تناغم الآذاريون مع الدولة العبرية مطالبين بنزع سلاح المقاومة بدلا من الوقوف في وجه اعتداءاتها على لبنان واحتلالها لأراضيه. وها هم اليوم يتبعون الاستراتيجية ذاتها في التعامل مع حزب المقاومة حيث يتناغمون مع الارهابيين ويطالبونه بالانسحاب من سوريا، بدلاً من التعاون معه لدفع الخطر التكفيري عن لبنان. فالأصل لدى الآذاريين هو اضعاف «حزب الله» - في ظل تعذر الخلاص منه - وما دون ذلك يندرج لديهم في إطار الفروع، حتى لو كانت كلفة الأمر لدى التيار الازرق سحب البساط من تحت الاعتدال في الشارع السني، ولدى حزب «القوات» القضاء على المسيحيين وتهجيرهم من لبنان والمشرق. كل ذلك في حسابات «ثورة» الأرز مقبول ما دام تعاظم القوة الداعشية يشكل احتمالا للنيل من «حزب الله»، وما دام الخطر التكفيري مرشحا للوصول يوما الى مناطق الحزب وجمهوره!

من أبسط المؤشرات على انحياز ثوار الارز الى جانب التكفيريين هو اطلاق وسائل اعلام هذا الفريق تسمية الميليشيا على المقاومة، مقابل تسمية الارهابيين في معركة الجرود بـ«الثوار» و«المعارضة السورية»، مع ان هؤلاء الاخيرين كانوا يستهدفون السيادة الوطنية باحتلال اراض لبنانية، وهم انفسهم من ذبحوا المخطوفين العسكريين ويهددون بذبح المزيد.


الوضع بالغ الخطورة إذاً، بينما لا يزال البعض ينظر الى المشهد من الزاوية الأكثر ضيقا. في المعلومات ان الارهابيين سيتحركون في لبنان على أكثر من محور، حيث ان الوضع في البقاع الغربي خطير جدا، واعداد النازحين السوريين باتت تفوق عدد السكان الاصليين مع ما يضمونه من خلايا إرهابية نائمة تنتظر ساعة الصفر للتحرك. فيما اسرائيل، بالتعاون مع قطر والاردن والولايات المتحده وبالاشتراك مع تركيا، تعمل على توفير منطقة عازلة للمسلحين تفرض كأمر واقع، ابتداء من القنيطرة وصولاً الى سفوح جبل الشيخ. وهناك، بحسب هذه المعلومات، محاولة جديه لتمديد المنطقه العازلة بهدف وصلها مع منطقة العرقوب في جنوب لبنان. وعلى ما يبدو، فإن عملية مزارع شبعا الأخيرة مجرد رسالة أولية من المقاومة الى الجانب الاسرائيلي لدفعه الى التراجع عن هذا السناريو والكف عن اللعب بالنار.


المعلومات ذاتها تفيد بأن غزوات جديدة شبيهة بالغزوة الاخيرة على جرود بريتال هي قيد التحضير، على اعتبار ان عدم القيام بهذه الغزوات سيضع الارهابيين أمام مواجهة الموت برداً، بينما التمدد عسكريا يضعهم أمام فرصة التموضع في القرى بعيدا عن الجرود وصقيعها، إذ يتجاوز ارتفاع بعض المناطق 2600 م.


ما يحضره الارهابيون في الشمال، كما تتضمن المعلومات عينها، هو الأكثر خطورة، حيث هناك جهود حثيثة بين التكفيريين وجهات محلية لإعلان الشمال إمارة تحت راية «داعش»، معولين على تلك الامارة للإخلال بموازين القوى في المعركة على امتداد لبنان، باعتبار أن الشمال هو الخزان الرئيسي للجيش اللبناني، وبالتالي العمل على اتخاذ اهالي الجنود في الشمال كرهائن معرضين للقتل والتنكيل، ما قد يؤدي الى ارباك الجيش قيادة وجنودا.


المعلومات ذاتها تشير الى ان حراكات التكفيريين المقبلة ستعتمد بشكل اساسي على الخلايا النائمة في بعض مخيمات اللاجئين، هذا فضلا عن جماعات مؤيدة لهم في المخيمات الفاسطينية، حيث يكفي ان يتسلل عشرات المسلحين باتجاه مكان ما من لبنان حتى يؤازرهم المئات من الداخل.


لم تكن معركة «حزب الله» الاخيرة مع التكفيريين في عمق مناطقه، بل على الحدود الشرقية حيث التنوع المذهبي والطائفي. كما لم يقدم الحزب ثلة من الشهداء دفاعا عن بيئته وناسه، بل عن اللبنانيين جميعا. فليتصور كل لبناني ما الذي كان سيحصل لو لم يكن رجال الحزب في مواجهة الارهابيين؟ أما كان الهجوم سيحقق أهدافه مع تقدم هؤلاء، على الأقل، باتجاه العديد من القرى اللبنانية المحيطة بسلسلة جبال لبنان الشرقية؟ أما كان سيستتبع ذلك اقتحامات أخرى باتجاه المزيد من المناطق وصولا، ربما، الى بيروت؟ ألا تعتبرالدعوة الى تحييد «حزب الله» والاكتفاء بالجيش وحده لمواجهة التكفيريين بمثابة العمل على سورنة الوضع اللبناني ضمن معادلة كر وفر تشبه، في احسن الاحوال، موازين القوى في سوريا بين الجيش السوري والمسلحين، مع وجود فارق ان معظم السوريين النازحين من حرائق الحرب قد لجأوا الى لبنان، بينما لن يكون لدى اللبنانيين مكان ينزحون إليه؟


لبنان بحاجة ماسة الى خطة طوارئ عاجلة واستراتيجية دفاعية لمواجهة هذا الموت القادم من الشرق. ما بعد معركة الجرود الأخيرة يختلف عما قبلها ويستدعي نمطا آخر من التعامل مع الاستحقاق التكفيري الداهم. المعركة هذه يجب أن تفضي الى فرز الجبهات وترسيم الخطوط الفاصلة بين من هو مع التكفيريين ومن هو ضدهم، خوفاً من الانزلاق إلى «يمننة» لبنانية، ما زال الوقت يسمح بالتعقل والمراجعة.

 

حبيب فياض/ السفير