رجب طيّب أردوغان: الإنجازات والردّات!

رجب طيّب أردوغان: الإنجازات والردّات!
الأربعاء ٢٣ ديسمبر ٢٠١٥ - ٠٧:٣٦ بتوقيت غرينتش

ارتبط اسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالإنجازات والانتصارات. حتى العام 2011 لم يكن هناك من سيرة تضاهي سيرته. دخل الى العالم العربي كما لو أنه عربي، والى أوروبا فاتحاً كما لو أنه خليفة محمد الفاتح. واصطفاه الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش ليكون رئيساً مشاركاً للشرق الأوسط الكبير.

عرف أردوغان كيف يتجاوز معلّمه نجم الدين أربكان. عرف ان إطاحة العلمانية لا تكون بمواجهتها مباشرة، وأنه لا بد أولاً من كسر درع المؤسسة العسكرية، وهذا لا يكون بالقوة بل بفعل الإرادة الشعبية. يعرف أن الغرب لن يستطيع مواجهته حين يواجهه بقوة صندوق الاقتراع.
هذا المجدد داخل الحركة الإسلامية في تركيا، وتحديداً داخل تيار أربكان منذ أن انقسم بين تقليديين وتجديديين بزعامة عبدالله غول في العام 1999 ومن بعدها عبر إنشاء «حزب العدالة والتنمية»، تدرج في التكتيك السياسي. كانت الغاية عنده تبرر الوسيلة. كان اختزالاً لنموذج مكيافيللي.
كان السؤال المركزي لدى أردوغان هو كيف يمكن أن نتمكن من السلطة ولا ننزل منها.
التحصين الشعبي لمشروعه كان في صلب تكتيكه، وهذا لا يكون إلا بالمزيد من الحريات والديموقراطية والتنمية الاقتصادية. كانت السنوات الأولى هي الأساس. اندفع بقوة لتعزيز الحريات، عبر تشديد شروط إغلاق الأحزاب وحظر العمل السياسي على الزعماء. وبلغت الذروة الرمزية للحريات في إنهاء معاناة المحجبات والسماح لهن بدخول الجامعات، كما في أن يكنّ وزيرات ونائبات، منهياً أحد أكبر عناوين التوتر بين العلمانيين والإسلاميين.
واندفع أردوغان في إطلاق الوعود في أكبر مشكلتين عانت منهما تركيا: المشكلة الكردية والمسألة العلوية. اعترف بوجود قضية كردية في العام 2005، وخفف من بعض القيود على استخدام اللغة الكردية وفتح الباب أمام قوانين إعفاء وتوبة وندم، وما الى ذلك من تسميات. فنال المزيد من دعم الأكراد الانتخابي، لتصل نسبة التأييد له وسط الأكراد الى حوالي الثلث. وعمل لاحقاً على إطلاق عملية تفاوض مباشرة مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان، وغالبا ما كانت تحصل عمليات وقف نار مواكبة للمفاوضات.
ودعا أردوغان الى طي صفحة الماضي في التعامل مع المسألة العلوية، ونسج علاقات مع زعمائهم، ورشّح مرة أحد مفكريهم ليكون نائباً في البرلمان. وعقد من أجل حل المسألة عشرات المؤتمرات وورشات العمل.
وكان له إنجاز غير مسبوق في العلاقة مع المؤسسة العسكرية. نجح أردوغان في العام 2010 في أن ينهي نفوذ المؤسسة العسكرية في الدستور والقوانين، لينزع عنها المسوّغات القانونية للانقلابات العسكرية. وما كان له ذلك لولا غض الولايات المتحدة النظر عن خطوة معاقبة المؤسسة العسكرية التي رفضت المشاركة في غزو العراق، فكان العقاب في استفتاء 12 أيلول العام 2010. أيضاً كانت هذه خطوة تحظى بدعم الاتحاد الأوروبي في سياق مسار تعزيز الحريات والديموقراطية، حيث كان قد نال بسبب هذا المسار مكافأة من الاتحاد الأوروبي ببدء مفاوضات العضوية الكاملة في العام 2005.
لكن الإنجاز الأكثر ثباتاً وتأثيراً كان في المجال الاقتصادي، حيث نجح أردوغان في أن ينقل تركيا الى مصاف الاقتصادات العشرين الأولى في العالم، وأطلق العنان لمشاريع ضخمة، مثل قناة اسطنبول الموازية لمضيق البوسفور والمطار الثالث فيها، كما الجسر المعلق الثالث في القسم الشمالي من البوسفور. ونجح في أن يرفع معدلات النمو الى 8 في المئة، ومستوى الدخل الفردي الى عشرة آلاف دولار والناتج القومي الى 800 مليار دولار، ورفع من حجم الصادرات والواردات لتصل الى أكثر من 400 مليار دولار، وخفض نسبة البطالة وشق آلاف الكيلومترات من الطرق.
كان نجاحاً اقتصادياً شهد له الجميع، ونجح حتى في تلافي التأثيرات القاتلة للأزمة المالية العالمية في العام 2009 والسنوات التي تلت. إنجازات حمت رصيده الشعبي، ففاز في جميع الانتخابات البلدية والنيابية والرئاسية التي أجريت، باستثناء انتخابات 7 حزيران العام 2015 التي فاز فيها «حزب العدالة والتنمية» بالمركز الأول، وبفارق كبير عن الحزب الثاني، ولكنها نسبة كانت غير كافية ليتفرد بالسلطة، إلا بعد إجراء انتخابات مبكرة عاد بعدها بقوة الى السلطة بنسبة 49 في المئة.
وتكاملت إنجازات الداخل مع إنجازات في السياسة الخارجية، كان عنوانها الأكبر «صفر مشكلات»، حيث نجح أردوغان في أن ينسج علاقات سياسية وشخصية مع كل العالم تقريباً، وحقق اختراقات تاريخية مع قبرص واليونان وأرمينيا، وتحولت العلاقات مع سوريا والعراق وايران وروسيا الى استراتيجية كادت تتهاوى أمامها الحدود الجغرافية المرسومة. وما كان من مشكلة، إقليمية أو دولية، إلا وكان لتركيا يد في محاولة حلها، وفي مقدمها الوساطة بين سوريا و"إسرائيل". وهذه العلاقات كانت مساعداً أساسياً في تحقيق النجاحات الاقتصادية.
.. ولكن
في السنوات الأربع الأخيرة انقلب السحر على الساحر. المسيرة المظفرة تعثرت، والنموذج بات في خبر كان. حتى في المجال الاقتصادي كان التراجع الكبير، الذي وإن لم يصل الى حافة الانهيار غير أنه يترنح تحت وطأة المتغيرات الداخلية والخارجية. النمو بالكاد يقارب الثلاثة في المئة. الناتج القومي يتراجع. نسبة البطالة تزداد، والاستثمارات الأجنبية تتراجع. ومتوسط الدخل الفردي تراجع ألفي دولار على الأقل. أما الفساد فاستشرى وضرب حتى العائلة الحاكمة.
«النموذج» انتهى في الداخل. الحريات باتت طي التاريخ. تركيا بأكملها تحولت الى سجن مفتوح. بات عدم تحمل النقد الميزة الأهم لأردوغان. عشرات الدعاوى فتحها على منتقديه، والتهمة لمن يعارضه جاهزة: الخيانة والتآمر. لم تكن انتفاضة جيزي مجرد عصيان واحتجاج، فقد تحولت إلى رمز والى ما قبل جيزي وما بعدها. والرجل النظيف لم يعد كذلك. الحريات في ذروة قمعها.
لكن الأكثر بروزاً هو السعي لتغيير النظام ليكون رئاسياً، تحصر السلطات فيه بيد رئيس الجمهورية. وحصر السلطات بيد فرد تحوّل إلى هاجس يومي لأردوغان. تخلص ميكيافيللي تركيا من شركائه في القوى اليسارية والديموقراطية، ومن ثم انتقل للتخلص من حلفائه داخل الحالة الإسلامية. بدأ بفتح الله غولين الذي بات يطلق على جماعته «منظمة فتح الله غولين الإرهابية»، وصدرت مذكرة اعتقال بحقه. وبعد ذلك انتقل الى رفيق دربه وإحدى رافعاته الأساسية الى السلطة والتمكن فيها، أي عبدالله غول، فأقصاه من الحزب ومن الحياة السياسية. لم يعد هناك في الحزب سوى الأمين على تمهيد الطريق للزعامة الفردية والاستبدادية، أي احمد داود اوغلو الذي أصبح بنعمة أردوغان رئيسا للحزب والحكومة.
تراجعت الديموقراطية. لا حل للمشكلة الكردية. مسار المفاوضات تحول الى عملية قتل منظمة وشاملة لـ «حزب العمال الكردستاني» وجمهوره في المدن والأرياف الكردية. المشكلة العلوية ازدادت تعقيداً. تحول العداء للهوية العلوية نهجاً لـ «حزب العدالة والتنمية». أما العلمانية فباتت أقل حضوراً مع ازدياد الطابع الديني في الدولة والحياة العامة، في انتظار التخلي عنها في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية في العام 2023.
إذا كان انهيار النموذج في الداخل واضحاً جداً، فإن انهياره في الخارج أكثر وضوحاً. بعد مرحلة «صفر مشكلات»، لم يعد الآن من صديق لتركيا. كل العرب، باستثناء قطر، تحوّلوا الى أعداء لأردوغان. سقط المشروع في سوريا والعراق وفي مصر وفي تونس وليبيا، وسقطت العلاقات مع السعودية والإمارات والخليج ( الفارسي) عموماً. ليس في الأمر مزاجية لكنها ردة الفعل على سعي «العثماني» الجديد لكي يتفرد بالهيمنة على المنطقة على أسس مذهبية واتنية وإيديولوجية. لم يبقِ رأس النموذج جاراً أو صديقاً له. حتى روسيا الجارة الكبيرة والاستراتيجية تجرأ بالأمس عليها في خطأ هو الأكبر له في السنوات الأخيرة. والنموذج «الناعم» تحول الى حاضنة للمجموعات والتيارات التكفيرية الأكثر تطرفاً ودموية في المنطقة.
من نموذج كان يمكن التطلع اليه، حوّل أردوغان تجربته في السلطة الى نموذج فارغ وبائس، إلا من هوس شخصنة السلطة واستعادة سلطنة بائدة. ومن سياسات «صفر مشكلات» في المنطقة مع الجميع الى سياسات كراهية واستقطاب تشكل خطراً كبيراً على السلام والأخوة والاستقرار في المنطقة. من الإنجاز الى الردة.. هذه هي حكاية النجاح التي انتهت الى كارثة وموضع تندر.
محمد نور الدين / السفير