اليمن: هذه حكاية الطائرة الرئاسية وطائرات سوق مستبأ ..

اليمن: هذه حكاية الطائرة الرئاسية وطائرات سوق مستبأ ..
السبت ١٩ مارس ٢٠١٦ - ٠٥:٢٨ بتوقيت غرينتش

في الوقت الذي أقلعت فيه صبيحة الثلاثاء 15مارس من مطار الملك خالد الدولي في الرياض طائرة سعودية متجهة إلى مطار الكويت وعلى متنها عبدربه منصور هادي الذي استهل بتلك الزيارة جولة خليجية جديدة يطلب فيها مزيدا من الدعم ومزيدا من الطائرات الحربية لدكّ ما تبقى من مصانع وأسواق ومدارس ومخازن للحبوب والغذاء في اليمن، اقلعت في نفس الوقت ثلاث طائرات حربية سعودية/ خليجية f16 من قاعدة خميس مشيط الجوية جنوب المملكة وأتجهت صوب محافظة حجة اليمنية، أهدافها وإحداثياتها كانت محددة وواضحةوما على طواقمها إلا الضغط على أزرار اطلاق الصواريخ والقنابل الموجهة ومباغتة العدو الذي كان يستعدّ لمهاجمة عروبة الخليج (الفارسي) انطلاقا من سوق شعبي معظم مرافقه أكواخ وطرابيل..

لم يكن يعلم المواطنون الذين تدفقوا منذُ الصباح الباكر إلى سوق الخميس في مديرية مستبأ، إن ذلك اليوم والساعات هي الأخيرة من حياتهم، ولو علموا لكانوا ودّعوا أهلهم وأطفالهم بما تستحقه مناسبة كهذه من جلال ومشاعر ومعاني إنسانية، ولم يكن – أيضا – يعلم الأطفال الذين حملوا الحرمان والأحلام الملائكية في عيونهم ونفوسهم، متطلعين في ذلك اليوم  للحصول على لعبة بسيطة وعشرة كيلو دقيق، إن أجسادهم ستتفحّم وتتمزق لتضيع معها معالمهم وملامحهم ويصعب على أمهاتهم معانقة واحتضان أرواحهم وأجسادهم التي ضاعت بين الأشلاء وأختلطت بالتراب والحطب ودماء وأشلاء رفاقهم، الذين خسروا حياتهم، وكسبوا الشهادة، خسروا مرحاً متقطعاً ربما كانوا سيحصلون عليه في ما كُتِب لهم من حياة ، وكسبوا فضيلة تعرية القتلة، نعاهم الشعب اليمني، وهم كسبوا شرف نعي ضمير الأمة والإنسانية المتوحشة.
هل تعلمون ما هو الخطر الذي كان يمثله أولئك الضحايا على التحالف السعودي؟ سأجيب لكم: لم يكن هناك أي خطر يتهدد المملكة أبدا، أكثر من أنهم يمنيون خرجوا باكرا من عششهم وبيوتهم المتواضعة من أجل الحصول على بعض أساسيات البقاء ومقايضة منتجاتهم وسلعهم البسيطة التي كانت عبارة عن بيض بلادي وكباش وماعز وأعلاف وحطب ، بأخرى ومن ثم العودة إلى أهلهم بقليل من الزاد وكثيرمن السعادة والأحلام الصغيرة التي لا تتعدى أحلام العودة إلى ذلك السوق في ثلاثاء قادم قد يحالفهم فيه حظّ جديد يُساعدهم على مواصلة الحياة على طريقة الكفاح والكدّ اليمني الذي عنوانه الدائم هنا (الألم) و (الأمل).
المهم ..بينما كانت طائرة هادي تقترب من الكويت وتستعد للهبوط في مطارها الدولي الذي فُرِش بالسجاد الأحمر، كانت طائرات الـ  f16قد أفرغت حمولتها وأخلى طياروها ما بعهدتهم من صواريخ وقنابل أستقبلتها رؤس وأجساد الناس في سوق الخميس بمديرية مستبأ حاصدة حياة (110) إنساناً يمني، فقيرا معدما، ما بين طفل وشاب وأمرأة ورجل، ومعهم (148) جريحا.
وكالعادة السيد هادي لم يعلم بهذه الجريمة إلا من خلال وسائل الإعلام ، تماما مثلما عَلِم بشن دول (التحالف السعودي) حربها المفتوحة على بلاده في 26مارس2015  والتي لم يكن – كماقالها باسماً في إحدى المقابلات – يتوقعها ،مؤكدا بإنه كان ساعتها يقطع الصحراء ،الخط الدولي بين اليمن وسلطنة عمان، في رحلة تاريخية لإعادة (الشرعية).
أما الذي يقفز في هذه اللحظات إلى ذهنه سؤال كهذا: كيف كانت ردّة فعله بعد أن عَلِم بهذا الانجاز العسكري  الجديد في سوق الخميس؟ سنقول له: لا جديد في الأمر، يا صديقي، ولم تكن ردة فعل وملامح فخامته إلا طبيعية، سيما والبروتكولات تحتم على القادة أن يكونوا ثقالا، لا تؤثر في برستيجهم وتصرفاتهم أثناء زياراتهم الخارجية لا الخسائر ولا المكاسب، ولهذا لم تظهر عليه أي ملامح أو مشاعرللحزن ، ولم يتأثر مثلما تأثرت رئاسته في الرياض، يوم قُتِل عشرات الجنود الإماراتين والسعوديين والبحرينيين في صحن الجن بمأرب وبادرت حينها طواقم رئاسته بإرسال البرقيات والتعازي المكلومة ، الحارة لقادات السعودية (المستضيفة لغرف النوم والكراسي الوهمية) وللإمارات والبحرين، وليس ذلك فحسب، بل أن (الرئيس) سرعان ما طار إلى أبوظبي والمنامة لمشاركة الأشقاء واجب العزاء وتقاسم الفاجعة معهم والتضرُّع لله بأن يسكنهم إلى جوار سادتنا (أبي بكر وعمر وعثمان وعلي) رضوان الله تعالى عليهم، ومؤكداً إنهم رواو بدمائهم الطاهرة تراب العروبة الجافة في اليمن، وسقوا شجرة الحرية الذابلة.
وخلوا في بالكم إن آلاف المدنيين قد سقطوا في الأسواق والمدن السكنية وقاعات الأفراح والمصانع والمستشفيات ، ولم نسمع يوماً إن السيد الرئيس وحكومته الموقرة أو أصغر مسؤل فيها قد عزى أسر الضحايا أو أبدى تعاطفه مع أهالي الشهداء والجرحى ولو كان ذلك شكليا.
صحيح لم تكن هذه الجريمة الأولى من نوعها ،وإنما هي إستمرار لمسلسل شبه يومي لمئات الجرائم المماثلة، لكنها في تقديرنا تُعدُّ بمثابة بيان نعي أخير من اليمنيين لضمير الأمة الذي كان ميتاً سريرياً ، الأمة العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء التي تستمتع بمشاهدة (هولوكستات) السعودية والسلاح الغربي، الذي يحول إنسان هذا الشعب إلى أشلاء وأطفاله إلى قطع من اللحم المتفحم.
اليمنيون لم يراهنوا على ما تبقى من أنظمة عربية حوائطها تميل كل يوم خمس درجات ، لكنهم راهنوا ومنوا النفس في بعض الأوقات بصحوة تقودها الشعوب العربية التي لم تتأثر حتى الساعة بعشرات المجازر كمجزرة (سوق الخميس بمستبأ) ولم تُرحكها- أيضا –  بعض صور أجساد أطفالنا التي تكفي لتوقيف الدماء في عروق كل من ينتمي للإنسانية هوى وهوية، معنى ومبنى، قيم واخلاق، مشاعر وأحاسيس.
للأسف الشديد الجميع قابل مأساتنا ومسلسلات قتلنا ببرود شديد وبصمت مطبق ، ولم نر بلدا عربيا واحدا نكّست فيه الأعلام ولا جامعة عربية توشحت فيها الساحات بالسواد ولا شاشة تلفزة واحدة نعت شهداءنا، أو أعلنت الحداد على ضحايا مجزرة واحدة من المجازر العديدة التي يذبح فيها اليمنيون بشكل جماعي، لم نر أو نسمع عن أي تضامن عربي، الكل يمارسون الغواية والتجاهل وغض الطرف عما يجري في اليمن وفلسطين وسوريا والعراق وليبيا، الكل يشاهد ما يحصل في اليمن منذُ عام وكأن ما يجري بالنسبة لهم يقع خارج كوكب الأرض ولا يعني أحدا بشيء.
العالم يقابل مذابحنا بالصمت والنأي عما يجري وهذه وصمة عار في جبين أحرار ما يسمى بالعالم الحر الديمقراطي ، في جبين كل من يهتف بحقوق الإنسان ويتغنى بمظالم الشعوب ويدعي حماية الشعوب والنضال والعمل  من أجل الأمن والسلم وحماية ميثاق الأمم المتحدة والمواثيق الدولية والقانون الدولي الإنساني ..
بعد كل الذي جرى ويجري في اليمن وفلسطين وسوريا وغيرها على الأصوات الناعقة بحقوق الإنسان، المتشدقة بالحرية أن تصمت وإلى الأبد، لا نريد أن نلوث أسماعنا بهرطقات احد.. وعلى هذا العالم أن يتوارى خجلا وعلى شركات بيع الأسلحة والشركات النفطية وغيرها أن تحترم نفسها ولا تتاجر بقضايانا ومظالمنا وحقوقنا وتقتل شهداءنا مرتين، أما نحن فلن ننقرض، ولن تفنينا هذه القنابل ومواقف الخذلان، ولن ينضب ضوء جروحنا.

* عبدالكريم المدي ــ رأي اليوم