عندما تسقط الأقنعة

عندما تسقط الأقنعة
الثلاثاء ٣١ مايو ٢٠١٦ - ٠١:٣٥ بتوقيت غرينتش

ضربتان قويتان في الرأس تلقتهما المساعي الجديدة المستهدفة تفعيل ما يسمى بـ «عملية السلام» بين الإسرائيليين والفلسطينيين على يد بنيامين نيتانياهو رئيس حكومة الكيان الصهيوني.

جاءت الضربة الأولى عندما أقال نيتانياهو وزير الحرب موشيه يعلون وجاء بغريمه الدائم افيغدور ليبرلمان وزير الخارجية السابق زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» ليفرضه عنوة على الجميع وزيراً للحرب في خطوة استباقية أراد أن يخرس بها كل الأصوات الطامحة إلى إحياء دعوة «حل الدولتين»، وليؤكد أنه لا بديل عن مشروعه هو كأساس للحل وهو أن "أرض فلسطين كلها هي ملك للشعب اليهودي وحده، الذي يراه صاحب هذه الأرض دون منازع".

أما الضربة الثانية فكانت الرفض المهين من جانب نيتانياهو لمبادرة السلام الفرنسية التي تستهدف، على نحو ما أوضح مانويل فالس رئيس الوزراء الفرنسي أن «هدفها هو إعادة تأكيد التزام المجتمع الدولي بحل الدولتين».

فعقب اللقاء المشترك بين نيتانياهو وفالس في تل أبيب (23/5/2016) أعلن نيتانياهو رفضه الاقتراح الفرنسي بعقد مؤتمر دولي لإعادة إطلاق جهود "السلام" المتعثرة مع الفلسطينيين، وأكد أن «المفاوضات الثنائية» هي «الطريق الوحيد للمضى قدماً في مفاوضات السلام»، وفي إشارة استرضاء للفرنسيين اقترح أن تكون باريس مكان عقد هذه المفاوضات الثنائية مع إمكانية أن تحمل أيضاً اسم «المبادرة الفرنسية».

وكان نيتانياهو قد أعلن قبل وصول رئيس الوزراء الفرنسي إلى تل أبيب رفضه المطلق المبادرة الفرنسية، مع كشف خلفيات هذا الرفض بإعلان أنها «مبادرة غير حيادية» وأن هذا الرفض له علاقة بسماح فرنسا لمنظمة اليونيسكو بإصدار قرار بخصوص المسجد الأقصى أغضب الإسرائيليين وهو القرار الذي لم يعترف بوجود أي علاقة لليهود بموقع المسجد الأقصى، واستخدم مصطلح «المسجد الأقصى» بدلاً من المصطلح الذى تريده "إسرائيل" للحديث عن الحرم القدسي وهو «جبل الهيكل»، كما تضمن القرار الحديث أكثر من مرة عن "إسرائيل" باعتبارها «سلطة احتلال»، ووجه اتهامات لـ"إسرائيل" بزرع قبور يهودية وسط المقابر المخصصة للمسلمين في القدس، وهو ما أثار ثائرة نيتانياهو ودفعه لوصف القرار بأنه «متعجرف ولا إنساني»، وأنه «قرار ظالم آخر من الأمم المتحدة» زاعماً تجاهل اليونيسكو للترابط التاريخي المميز لليهودية فيما يسميه «جبل الهيكل» ويقصد المسجد الأقصى المبارك.

لم يشفع لفرنسا اعتذار رئيسها ورئيس حكومتها عن مشاركة بلدهما فى إصدار قرار اليونيسكو.. برغم ذلك أصر نيتانياهو على معاقبة فرنسا على هذا الموقف، وعبر عن ذلك برفضه المبادرة الفرنسية، لكنه في الواقع كان يبحث عن ذريعة ليعيد تثبيت الموقف الإسرائيلي الملتزم بمبدأ عدم الانسحاب من الأراضي التي احتلتها "إسرائيل" بعدوان يونيو 1967، والإصرار على ضم هذه الأراضي ورفض التعامل معها باعتبارها أرضاً محتلة، ولكنها جزء أصيل من أرض دولة "إسرائيل" التي «يجب أن تكون وطناً لليهود دون غيرهم»، حسب نتنياهو.

تعيين نتنياهو ليبرمان وزيراً للحرب ورفضه دعوة المؤتمر الدولي كما هي واردة في المبادرة الفرنسية جاء على عكس التزامات إسرائيلية على لسان نيتانياهو مع توني بلير المبعوث السابق للجنة الرباعية الدولية ورئيس وزراء بريطانيا الأسبق على نحو ما كشفت عنه صحيفة يديعوت احرونوت (19/5/2016)، فالاتفاق بين توني بلير ونيتانياهو كان يقضى بإنجاز «صفقة سلام كبرى يتم التوصل إليها «عبر مؤتمر دولي» يؤدي إلى تطبيع علني ومباشر للعلاقات العربية ـ الإسرائيلية مقابل تنازلات إسرائيلية للفلسطينيين، وأن مثل هذا التوجه يستلزم «تشكيل حكومة وحدة وطنية موسعة تضم المعارضة الإسرائيلية بزعامة اسحق هيرتسوج» تكون قادرة على الخوض في مثل هذا المسار الذي يفترض توافقاً بين كل القوى الإسرائيلية.

هذا الاتفاق الثنائي الذي كشفت عن تفاصيله الصحف الإسرائيلية شجع توني بلير على التمادي في تفاؤله انطلاقاً من ثقة مفترضة في شخص نيتانياهو ووعوده لدرجة الحديث في مؤتمر عقد في لندن (24/5/2016) عن وجود استعداد لدى الدول العربية للتطبيع مع "إسرائيل" والموافقة على التفاوض حول «نسخة مخففة من مبادرة السلام العربية».

وأوضح أنه يعتقد أن هناك فرصة في الوقت الحالي لأن توافق الدول العربية على تخفيف مبادرة "السلام" العربية وتطبيع العلاقات مع "إسرائيل" خلال المفاوضات وليس بعد تحقيق الاتفاق الدائم بين "إسرائيل" والفلسطينيين.. وقال بلير «إذا وافقت إسرائيل على الالتزام بالحديث حول مبادرة السلام العربية كسياق تجري فى إطاره المفاوضات، ستتمكن الدول العربية من القيام بخطوات لتطبيع العلاقات على مدار الطريق من أجل زيادة الثقة بعملية السلام»، أي أن التطبيع لن يكون هو ثمن "السلام" ومحصلته النهائية بعد أن يكتمل كما تقول مبادرة "السلام" العربية، بل سيبدأ مباشرة مع الشروع في التفاوض على "السلام".

كلام شديد الخطورة إن كان بلير صادقاً فيما يروج، هذا السيناريو التفاوضي المقترح وضعت له ركيزتان الأولى حكومة "وحدة وطنية" تجمع اسحق هيرتسوج زعيم حزب «الحركة الصهيونية» المعارض جنباً إلى جنب مع نيتانياهو، وأن المؤتمر الدولي بمشاركة أطراف إقليمية سيكون الوسيلة للشروع فى مشوار "السلام" الجديد، لكن نيتانياهو ضرب عرض الحائط بهذا كله، وبدلاً من أن يشكل حكومة وحدة وطنية ويستقطب اسحق هيرتسوج ليخوض غمار عملية "سلام" جديدة قفز في الهواء نحو رمز التشدد افيغدور ليبرمان وحزبه «إسرائيل بيتنا» من أجل تكوين حكومة يمينية أكثر تطرفاً وأكثر تشدداً يرمز تكوينها إلى قطع أي صلة إسرائيلية بتحركات "السلام" الجديدة، وبدلاً من إعلان الموافقة على صيغة المؤتمر الدولي المقترحة من فرنسا رفض المبادرة وندد بها، وعاد ليتحدى الجميع بإعلان قبوله فقط بخيار المفاوضات الثنائية مع السلطة الفلسطينية.

ما الذى دفع نيتانياهو لتعمد تخريب ما سبق أن اتفق عليه وتعهد به مع توني بلير وأطراف إقليمية أخرى؟

السؤال مهم، لكن إجابته أهم، فرهان نيتانياهو الآن هو أن «إسرائيل لم تعد، في ظل معادلة توازن القوى الإقليمية الحالية شديدة الاختلال لمصلحتها، مضطرة للتفاوض مع الفلسطينيين عبر مؤتمر دولي يفرض عليها تقديم تنازلات، ولكن بات في مقدورها أن تحصل على السلام الذى تريده دون تقديم أثمان، وأن العرب هم الذين في حاجة للتعاون مع إسرائيل أكثر من حاجة إسرائيل للتعاون معهم، وأن فلسطين وحقوق شعبها لم تعد عقبة أمام العرب الذين أضحوا أكثر حرصاً على التقارب مع إسرائيل متجاوزين عقبة القضية الفلسطينية».

هكذا يروج نيتانياهو، وهكذا أسقط كل الأقنعة التى تتستر خلفها أساطير زيف الالتزامات العربية بفلسطين والأمن القومى العربى.

محمد السعيد إدريس: الأهرام

3ـ114