في ذكرى استشهاد الإمام علي الرضا عليه السلام..

لماذا قبل الإمام ولاية العهد؟

لماذا قبل الإمام ولاية العهد؟
الثلاثاء ٢٩ نوفمبر ٢٠١٦ - ٠٨:١٢ بتوقيت غرينتش

قال الإمام موسى الكاظم عليه السلام، في الإشادة بولده الإمام الرضا، وتقديمه على السادة الاجلّاء من أبنائه، ودعوتهم بخدمته والرجوع اليه في امور دينهم: هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمد (صلى الله عليه وآله) سلوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم، فإنّي سمعت أبي جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول لي: إن عالم آل محمد (صلى الله عليه وآله) لفي صلبك، وليتني أدركه فإنه سميُّ أمير المؤمنين..) - كشف الغمة، اعيان الشيعة-.

 إن عالم آل محمد (صلى الله عليه وآله) لفي صلبك، وليتني أدركه فإنه سميُّ أمير المؤمنين..) - كشف الغمة، اعيان الشيعة-.
الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، هو الثامن من ائمة أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، ولد عليه السلام -في عصر المنصور العباسي- بعد استشهاد جده الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ونشأ في أكرم بيت من بيوتات قريش، ألا وهو البيت الهاشمي العلوي، بيت الإمامة والشهادة وترعرع في احضان أبيه الإمام موسى الكاظم عليه السلام وعاش معه أكثر من ثلاثة عقود.
عاصر الإمام الرضا عليه السلام خلال العقود الثلاثة هذه، كلا من المنصور والمهدي والرشيد من خلفاء بني العباس الذين لم يألوا جهدا في اطفاء نور هذا البيت الرفيع. وكان عليه السلام صلبا في مواقفه السياسية الإسلامية وصريحا كل الصراحة، ولم تخدعه الأساليب الخبيثة والمزيفة التي سلكها أدهى الخلفاء العباسيين وهو المأمون الذي رشحه للخلافة اولا ثم فرض عليه قبول العهد ثانيا في عصر كانت الإنتفاضات العلوية تزلزل عرش الاكاسرة العباسيين. اُكره الإمام الرضا عليه السلام على قبول ولاية العهد، ولكنه فوّت الفرصة الذهبية التي كان يطمع المأمون بتحقيقها من خلال اكراهه على قبول ولاية العهد. فاغتم الإمام الرضا عليه السلام هذا الظرف الذهبي الذي جاءت به ولاية العهد على الوجه الأكمل بهدف نشر معالم الإسلام الحق وتثبيت دعائم أطروحة مذهب أهل البيت عليهم السلام متحديا كل الخطوط الفكرية والمذهبية المنحرفة آنذاك.
لفهم هذا الموضوع بصورة جلية نرجع إلى نهاية عصر هارون الرشيد. فبعيد هلاك هارون الرشيد انفجر النزاع بين أبنيه الأمين والمأمون، وبعد فترة من المراسلات بين الأخوين حول قضية ولاية العهد وصلاحيات الخليفة عمد الخليفة الأمين الى وضع أخيه المأمون في المرتبة الثانية بعد ابنه في الحكم. وبرزت لكل منهما مناطق نفوذ ومؤيدين في قطعات الجيش وبين العامة. وتفاقم التوتر بينهما وعُبئت الجيوش التي اشتبكت في قتال حوصرت بغداد خلاله. وكانت نتيجة المعارك لصالح المأمون، وسقط الأمين أسيراً ثم قتيلاً. وإستلم المأمون زمام الحكم بعد هذه الحرب الدامية استلم المأمون زمام الحكم بعد حرب دامية استمرت خمس سنين قتل فيها آلاف القادة والجنود وحدث تفتت في التحالف العباسي وانقسم الى قسمين مؤيدين ومعارضين لحكم المأمون. وكان المأمون كوارث لأبيه واجداده كمخداع وظالم وسفاك، لم يستطيع ان يخرج من النهج السياسي السابق إلا في حدود ضيقة، وكان كسابقيه يؤطر حكمه باطار شرعي مقدس.
اما عن ظلمه، فمن لا يعرف أنّ المأمون قتل أخاه الأمين؟ فهو الذي أصدر الأمر لطاهر واليه على خراسان بأن يقتله. ولم يتكف بذلك، بل أعطى الذي جاءه برأس الأمين ألف ألف درهم بعد أن سجد شكراً لله. ولم يشفه ذلك، بل أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار. ولم يُهدّئه ذلك، إنّما أمر كلّ من قبض راتبه أن يلعن الأمين. ولم يُنزل رأس أخيه حتّى جاء رجل فلعن الرأس ووالديه وما وَلدا، وأدخلهم في كذا وكذا من أمّهاتهم، بحيث يسمعه المأمون، فتبسّم وتغافل وأمر بحطّ الرأس.- السمعانيّ، في الأنساب 139:6.
ثمّ بعد ذلك دبّر قتل وزيره الفضل بن سهل وكان أراد أن يزوّجه ابنته، في حادثة غامضة طعنه وتخلّص منه لأنّه أصبح عاراً عليه بعد قتله أخاه المأمون. ومِن بعده دبّر قتل قائده الكبير هرثمة بن أعين فور وصوله إلى مرو. ودبّر فيما بعد قتل طاهرٍ واليه على خراسان. - قطب الدين الراونديّ، في الخرائج والجرائح-.
وفي ما مضى كان يظهر لهم الحبَّ ويتمايل إلى التقارب والمصاهرة، وفي كلِّ مرّة بعد قتلهم يتظاهر بالحزن العظيم عليهم، وطلب الثأر لهم، وتقديم التعازي لذويهم ويعمل على تعيين ولد القتيل مكان أبيه، بل وتقديم بعض الرؤوس لأهليهم بعنوان أنّهم القتله. وقد قتل محمّد بن جعفر ثمّ جاء بنفسه وحمل نعشه، ليؤكّد براءته بأساليب مختلفة، ويرضي جميع الأطراف.
هذه بعض طرقه، وهنالك طرق أخرى عرفها الآخرون، وربّما لم يشتهر كثيراً أنّ المأمون قتل سبعةً من أبناء الكاظم عليه السّلام إخوة الرضا عليه السّلام، منهم: إبراهيم بن موسى عليه السّلام، وزيد بن موسى عليه السّلام بعد أن عفا عنهما ظاهراً، وأحمد بن موسى عليه السّلام، ومحمّد العابد، وحمزة بن موسى عليه السّلام.. إضافة إلى عشراتٍ من الأعيان ومئات من العلويّين وآلاف من مخالفيه.- ابن شهرآشوب، في مناقب آل أبي طالب.
فبعد سنتين من سيطرة المأمون على زمام الحكم، وبالتحديد في سنة 200هـ كتب إلى الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، يدعوه للقدوم الى عاصمة حكمه في خراسان، وثم تعيين الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، ولياً للعهد وتحت طائلة الضغط والإصرار والتهديد بالقتل حيث كان يهدف المأمون إلى تحقيق أهداف سياسية منها:
* تهدئة الأوضاع المضطربة بعد الإضطربات التي حدثت جراء القتال الدَّامي بين "المأمون" وأخيه "الأمين" والذي انتهى بقتل اللأخير، إضافةً إلى قيام ثورات وحركات مسلحة وازدياد عدد المعارضين لحكمه.
* تحسين صورته أمام الناس بأنه يحب أهل البيت عليهم السلام وليس كما كان عليه والده "هارون".
* إضفاء الشرعية على حكمه وتحقيق ما يصبو اليه مستفيدا من الولاء الفكري والعاطفي للإمام عليه السلام في نفوس المسلمين، ورضاه الظاهري، وهو ما ستستنتجه الأمَّة.
* إرضاء العلويين والذين رفعوا لواء الثورة في مناطق عديدة من الدولة العباسية.
* إبعاد الإمام الرضا عليه السلام عن قواعده الشعبية، وتحجيم الفرَص المتاحة للاجتماع بوكلائه ونوابه المنتشرين في شرق الأرض وغربها، بتكثيف المراقبة من مراقبة الإمام عليه السلام بذريعة المحافظة على سلامته.
* إيقاف خطر الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، على الحكم العباسي القائم لو ترك الإمام في المدينة لأدَّى ذلك الى ضعف سلطة "المأمون".
* تشوية سمعة الإمام الرضا عليه السلام والإيحاء للناس أن زهد العلويين ومعارضتهم للحكم هو من أجل الحصول على المناصب والدليل وجوده (ع) في جهاز الحكم العباسي رغم ظلمه الفرعوني - (رجال الكشي: ح958 وأمالي الصدوق: 64.
وقد كشف الإمام الرضا (ع) ذلك خلال حديثه ل"المأمون" بقوله: "تريد بذلك أن يقول الناس: إنَّ علي بن موسى الرِّضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعًا بالخلافة"؟!.
كما أن "المأمون"صرح بذلك أمام كبار العباسيِّين عندما أجتمعوا عنده في "مرو" معترضين على قرار ولاية العهد للرضا (ع) ، حيث أجابهم بقوله: "...ولكنَّنا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتَّى نصوِّره عند الرَّعايا بصورة من لا يستحقُّ هذا الأمر".
* جمع زعماء العلويين في العاصمة ثم العمل على تصفيتهم الواحد بعد الآخر.
* توريط الإمام أبا الحسن (ع) باتخاذ بعض الإجراءات السياسية ومن ثم محاسبته بتهمة التقصير.
هذا وشرط الإمام الرضا عليه السلام بعد الحاح المأمون وحتى وصل الى درجة التلويح بل التصريح بالقتل، بعض الشروط وقال عليه السلام في هذا الصدد:
"اني أدخل في ولاية العهد على ان لا آمر ولا أنهى ولا أقضي، ولا أغير شيئا ممّا هو قائم وتعفيني من كل ذلك"-عيون اخبار الرضا 2/149،150-.
ولهذا يمكن الجزم، بأن دوافع المأمون من جعل الامام عليه السلام وليا لعهده، ليست تابعة من ولائه لاهل البيت، لأن مغريات السلطة والرئاسة متغلبة على جميع الولاءات والميول ولم يكن المأمون صادقا في ولائه، وكان ميله للعلويين اصطناعيا، فهل يُعقل ان يضحّي المأمون بالحكم الذي قتل من أجله الالاف من الجنود والقادة وقتل اخاه وبعض أهل بيته، يسلّمه إلى غيره؟.
ومن جانب اخر يمكن ان نشير الى بعض نتائج ولاية العهد للإمام الرضا عليه السلام واسباب قبول الإمام لعرض المأمون بإسناد ولاية العهد إليه، بعد ان عرفنا اسباب عرض المأمون:
*اعتراف المأمون بأحقية أهل البيت: ويكفي للتدليل على هذه الفكرة أن نطلع على بعض الكلمات التي صدرت من الإمام عليه السلام في مراسم التعيين. فعندما طلب المأمون منه أن يخطب أمام الناس فقد خطب موضحاً حقه: أيها الناس إن لنا عليكم حقاً برسول اللّه صلى الله عليه وآله ولكن علينا حقاً به فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب لكم علينا الحكم والسلام.
* توظيف الإعلام لصالح الإمام عليه السلام وقد تم ذلك خلال عدة خطوات: أصبح أئمة الجمعة يدعون للإمام الرضا عليه السلام كل جمعة وكل مناسبة. ضربت النقود باسم الإمام الرضا عليه السلام في جميع الأمصار. كثرت الخطب والأشعار المادحة للإمام وأهل البيت عليهم السلام .
* حرية الإمام في المناظرة: ويكفي أن نعرف أن مناظرات الإمام كثيرة جداً مع كل المذاهب والأديان حتى لقب عليه السلام بـ "عيظ الملحدين".
*نشر فضائل ومقامات أهل البيت عليهم السلام: فقد نشر الإمام عليه السلام فضائل الإمام علي عليه السلام وكراماته، ويكفي أن نعرف أن نفس المأمون في سنة 211 قد أمر أن ينادي: برئت الذمة ممن يذكر معاوية بخير، وأن أفضل الخلائق بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب.
*حقن دماء المسلمين: من مكتسبات هذه الولاية حقن الدماء، فقد أصدر المأمون العفو العام عن قيادة الثورات: كزيد وإبراهيم أخو الإمام عليه السلام، ومحمد بن جعفر.
* تجنب الوقوع في جميع النتائج السلبية لعدم القبول، فقد دفع عن نفسه القتل، وبذا تجنب حدوث تغيير القيادة لخط أهل البيت (عليهم السلام) في فترة حرجة. وتجنب موجة جديدة من الإرهاب والمطاردة والقتل ضد أتباع خط أهل البيت (عليهم السلام)، وحال دون الجناح العباسي المتصلب والتمكن من الاستيلاء على الحكم ، بل أوجد الظروف المناسبة لتحطيم هذا الخط، وشل قدرته على التحرك السياسي والتأثير على مجرى الأحداث.
*بقبوله استطاع عليه السلام التواصل مع أوساط لم تكن لتجرؤ على الإتصال به فيما لو لم يكن ولياً للعهد، فالتف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، وأهل السنة، وسائر الفئات الشيعية. وبهذا التواصل استطاع التفاعل معهم على أساس صيغة النص. كما أنه بهذا مكن قيادات خط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من كبار المحدثين والمتكلمين من التواصل الحر الآمن مع هذه الأوساط المخالفة، وطرح القضايا الفكرية والسياسية للمناقشة العلمية الموضوعية الهادئة، وقد مارس الإمام الرضا عليه السلام، بنفسه هذا اللون من النشاط العلمي الواسع المتنوع. وليس لنا أن نهوّن من الإيجابيات الفكرية والسياسية التي تحققت لمصلحة خط أئمة أهل البيت عليهم السلام، من هذا التواصل والتفاعل.
* مكّن القيادات الفكرية لخط أهل البيت (عليهم السلام) من أن تتواصل وتتفاعل بحرية وأمان مع الحالة الشعبية بجميع مستوياتها على أساس صيغة النص. وبذلك غدت صيغة النص أكثر قدرة على التفاعل مع الحالة الشعبية ورسوخاً في وعيها في مواجهة المكر السيئ والتضليل الذي كان يقوم به الحكم وأعوانه من علماء السوء، كما غدت هذه الصيغة أكثر قبولاً لدى الخاصة.
اما النتائج التي تحققت على صعيد تحقيق الأهداف:
* ترسيخ صيغة النص في ذهنية الأمة.
* خلق معارضة داخل النظام على الصعيد الإيديولوجي السياسي، والجماهيري.
* وضع المأمون في موقف دفاعي، فقد رأى المأمون صيغة النص تتفاعل مع المجتمع على الصعيد الشعبي والجماعات الفكرية السياسية. ونقدم شاهداً عظيم الدلالة على مدى النفوذ الفعلي الذي بلغه الإمام الرضا (عليه السلام) على المستوى الشعبي ومارسه، وهو الغضبة الشعبية التي أعقبت قتل الفضل بن سهل، وهجوم القادة والجنود على مقر المأمون بالنيران، بعد أن تحصن منهم، وطلب من الإمام (عليه السلام) أن يتدخل لإنقاذه، فخرج الإمام (عليه السلام) إليهم، وأمرهم بالتفرق، فتفرقوا.
واما عن استشهاد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، فإن الخليفة العباسي المأمون كان له علاقة ذات وجهين مع الإمام علي الرضا (ع). فقد كان من جهة يعترف بشأنه العالي ومن جهة أُخرى كان لايريد التخلي عن سُلطته، ولما كان بعض وزراء المأمون وقادته كانوا يبغضون الامام عليه السلام ويحسدونه، فكثرت وشاياتهم على الإمام عليه السلام، وكان المأمون يرى أنه لا يمكنه بأي حال الإلتفاف على الإمام الرضا عليه السلام، بأي مؤامرة ظاهرها التقرب وباطنها الإحتيال والمكر ولا يمكن لأي أن يلتف عليه، لهذا أقدم على سمه للتخلص منه. واستشهد الإمام علي الرضا عليه السلام في خراسان في نهاية شهر صفر سنة ثلاث بعد المئتين للهجرة ودُفن سلام الله عليه بارض طوس.
السلام عليك يا شمس الشموس، وياانيس النفوس المدفون بارض طوس..السلام عليك ياغريب الغرباء، يا معين الضعفاء والفقراء، يا علي بن موسى الرضا ورحمة الله وبركاته.

• محمد بسطامي

208

تصنيف :