الحرب المفتوحة وفوائض استمراريتها

الحرب المفتوحة وفوائض استمراريتها
الخميس ٢٠ أبريل ٢٠١٧ - ١٠:٣٣ بتوقيت غرينتش

الحرب على الإرهاب الممنهج العابر لحدود الدول والقارات ليست ترفاً سياسياً تعتمده دمشق وطهران وبقية أقطاب المقاومة، ولا هي تجربة مجتمعية تريد تلك الأطراف اختبار نجاعتها وتداعياتها الآنية والمستقبلية، بل هي ضرورة فرضت على محور المقاومة الارتقاء إلى مستوى المسؤولية لتفادي الأخطار والتحديات والتهديدات التي أفرزها انتشار الإرهاب جراء رعايته من قبل أطراف دولية فاعلة تدعي محاربته وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور في فلكها طواعية أو خوفاً، ..

العالم - مقالات

وهذا يعني أن المواقف التي تعلنها هذه الدولة أو تلك قد تكون في بعض جوانبها أداة من أدوات هذه الحرب المزمنة والمركبة والمفتوحة على جميع الاحتمالات، والحرب كغيرها من الظواهر المجتمعية المعقدة لها مدخلات ومخرجات ترتبط بتلك المدخلات التي يبدو أنها ليست في تناقص، فمؤشرات الواقع تشير إلى فائض في السلاح بكل أنواعه، وفائض في المسلحين الذين تم تجهيزهم وإعدادهم عبر عقود من حملة الفكر التكفيري المنتشر عمودياً وأفقياً برعاية الموساد وأجهزة الاستخبارات البريطانية والأمريكية وبقية الدول التابعة بشكل مباشر أو غير مباش، ومع فوائض السلاح والمسلحين فائض في التمويل.

استناداً إلى هذه المقدمة الموجزة يمكن الدخول مباشرة في طبيعة الوضع القائم في سورية، وهو يختصر الاشتباك والشباك إقليمياً ودولياً، فأين اليوم نحن والعالم مما تبقى من محطات في مشروع التشظية والتقسيم الذي بنت عليه واشنطن إستراتيجيتها منذ ثمانينات القرن الماضي لفرض الهوية الأمريكية على القرن الحادي والعشرين؟ وماذا عن الأدوار الرئيسة والفرعية للقوى الفاعلة في صنع القرار الدولي؟ وهل تشهد المنطقة والعالم مزيداً من التصعيد الميداني والتورط المباشر في رحى الحرب على الجغرافيا السورية ـ مع ما يحمله ذلك من أخطار خروج الأمور عن السيطرة وامتداد ألسنة اللهب ـ أم أن أصحاب القرار على كلتا الضفتين يدركون العجز الفعلي عن تحمل تداعيات مثل ذاك الخروج الكارثي على الجميع دونما استثناء؟ وماذا لو طرأ ما هو غير محسوب رغم الحسابات الدقيقة، وبخاصة في ظل وصول "ترامب" بشخصيته الإشكالية إلى البيت الأبيض؟ وهذا بدوره يفرز تساؤلاً عريضاً مشروعاً، وهو: هل كان فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية مفاجئاً لما يسمى "الحكومة العميقة" أو ما يعرف بحكومة الظل المتحكمة بالقرار الدولي على المستوى العالمي، أم أن فوزه محطة متفق عليها للانتقال إلى محطات جديدة وفق ما يؤول إليه تطور الأحداث وتداعياتها التي ما تزال مجهولة الأفق؟.

وهنا أرى أنه من السطحية السياسية الحديث عن عبقرية فريق ترامب بقراءة هواجس المجتمع الأمريكي واختراقه غير المحسوب لجماعات الضغط والماكينة الإعلامية المسؤولة عن خلق الرأي العام وتوجيهه وفق الأجندة المعتمدة، وأنا شخصياً لا أستبعد أن يكون ما تم تسويقه على أنه عدم رضا عن ترامب وغضب من وصوله إلى البيت الأبيض ـ أن يكون على عكس ما تم ترويجه ـ جزءاً من استراتيجية " الحكومة العميقة" لضمان أكبر قدر ممكن من الفاعلية المطلوبة لإدارة ترامب للاقتراب أكثر من تحقيق الهدف الاستراتيجي للإدارات الأمريكية المتعاقبة جمهورية كانت أم ديمقراطية، وهو التفرد بالقرار الدولي، وإبقاء منطقة الشرق الأوسط بصفتها جزءا من قلب العالم "الهارتلاند" مضبوطة الإيقاع وفق بوصلة المصالح الصهيو ـ أمريكية، وعدم السماح بظهور أنداد أو أقطاب مكافئة، وهاهي اليوم روسيا عادت عبر البوابة السورية إلى الحلبة الدولية لتضطلع بدور القطب المكافئ والند الأكثر كفاءة في إدارة أزمات المنطقة، والجمهورية الإسلامية في إيران غدت لاعباً ما فوق إقليمي، وبخاصة بعد توقيع الاتفاق النووي مع الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا، وحزب الله يراكم خبراته وأوراق قوته التي يرى فيها الكيان الصهيوني تهديداً وجودياً له، وكل هذا لن يرضي واشنطن ومن يدور في فلكها، بغض النظر عما يتم تسويقه من خطاب إعلامي لا يجد له أية مرتسمات على أرض الواقع إلا بالمزيد من العربدة الأمريكية والتنصل مما يتم التعهد به، وهذا بدوره يزيد من ضبابية الصورة للمستقبل القريب والمتوسط، ولإجلاء بعض الغموض الذي يكتنف المشهد الاستراتيجي ويضفي عليه الكثير من التناقضات التي تزيد مسرح التفاعلات تعقيداً يمكن الإشارة بعجالة إلى بعض النقاط المهمة، ومنها:

1- القراءة الصحيحة لتطور الأحداث وتداعياتها المحتملة مكّنت حزب الله من المشاركة الفعلية في الوقت المناسب، والتصدي لجيوش الإرهاب التكفيري، الأمر الذي جنب المقاومة و لبنان الكثير مما كان مخططا له ضمن مشروع التشظية والتقسيم الذي يستهدف جميع دول المنطقة دونما استثناء خدمة لمصالح الكيان الصهيوني.

2- التعامل الإيراني الجاد والمسؤول، والمواقف الحاسمة والحازمة مما يجري في المنطقة حال دون خلط الأوراق، ومكّن إيران من الاستثمار بفاعلية دورها الإقليمي المتزايد وبخاصة بعد توقيع الاتفاق النووي.

3- تكرار استخدام حق النقض " الفيتو"  المزدوج" الروسي ـ الصيني" أو الروسي فقط، أفقد أصحاب المشروع التفتيتي إمكانية الاستفراد بالدولة السورية، ومنع استخدام مجلس الأمن الدولي كمنصة متقدمة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة، وثبت معالم مرحلة جديدة في العلاقات الدولية عنوانها: انتهاء صلاحية نظام الأحادية القطبية، وهذا ما دفع أطراف مشروع السيطرة عبر التفتيت لرفع مستوى التصعيد الميداني وبشكل سافر ومباشر على الجغرافيا السورية.

4- الانخراط العسكري الروسي المباشر بجزء من القوات الجوية الفضائية الروسية في الحرب على الإرهاب أكد بالدلائل القاطعة أن إمكانية القضاء عليه ممكنة، لكنها تحتاج لتضافر جهود الجميع، وهذا ما لم يحدث حتى الآن، وقد لا نرى له مرتسمات فعلية على أرض الواقع، مع أن أخطاره وتهديداته تطال الجميع دونما استثناء.

5- لو استطاع أصحاب مشروع الاستثمار بالإرهاب تمرير مشروعهم في سورية لكانت المنصة التالية باتجاه إيران وروسيا الفيدرالية، ولكان الإرهاب ازداد قدرة على الإجرام وارتكاب أفظع المجازر في شتى دول العالم، وبقدر ما يكون الموقف الروسي حازماً وحاسماً في الاستمرار بتعرية الإرهاب وداعميه ومواجهتهم لمنع الاستفراد بسورية والحيلولة دون تقسيمها أو رسم معالم مستقبلها إلا بإرادة أبنائها بقدر ما تبقى روسيا في دائرة الفاعلية المطلوبة والقطب المكافئ للولايات المتحدة الأمريكية، والعكس صحيح.

6- توقيع الاتفاق على توسيع القاعدة الروسية في طرطوس وفاعلية المركز الروسي في "حميم" ، والنجاح النسبي في رعاية المصالحات المحلية أعطى الدور الروسي رجحاناً على كل الأدوار الأخرى، وبخاصة أن الوجود الروسي شرعي وبناء على طلب الدولة السورية.

7- تذبذب المواقف التركية، وانتقال أردوغان المفاجئ من ضفة إلى أخرى لا يدل على تخبط في السياسة التركية، بل يؤكد التعامل مع الواقعيتين الميدانية والسياسية، وهو جزء من البراغماتية الأمريكية وليس خروجاً على طاعة بلاد العم سام، فتركيا تبقى بوابة الناتو المفتوحة على المنطقة وعلى إيران وباتجاه روسيا أيضاً، والتناقضات التي يتم ترويجها إعلامياً هي تكامل في المهام وتوزيع للأدوار لكسب أكبر وقت ممكن لتهيئة البيئة الاستراتيجية المطلوبة لترك المنطقة مفتوحة على كل السيناريوهات المعلنة والمخفية بآن معاً.

8- التصعيد الأمريكي العسكري غير المسبوق، وانخراط  واشنطن المباشر في مجريات الميدان على المستويين التكتيكي والعملياتي يؤكد أن الهدف الاستراتيجي لهذه الحرب يبقى بوصلة جميع أطراف التآمر والعدوان لفرض تشظية دول المنطقة وتقسيمها بما يخدم ما يسمونه " الأمن القومي الإسرائيلي"، فالحضور العسكري الأمريكي المباشر في شرق سورية، والعربدة الأمريكية باستهداف الجيش العربي السورية في مطار الشعيرات وقبل ذلك في جبل الثردة يثبت أن داعش وبقية التنظيمات الإرهابية الأخرى تعمل بإيقاع مضبوط وفق البوصلة الأمريكية التي تدعي محاربة الإرهاب وتمارس العكس على أرض الواقع.

9- الصفاقة السياسية ووقاحة الخطاب الرسمي المعتمد في مشيخات الخليج (الفارسي) المنبطحة تحت أقدام المايسترو الصهيو ـ أمريكي يشير إلى أن عربان التصحر والبداوة الجاهلية لا خيار لهم كغيرهم مما يعرض في سوق نخاسة القرن الحادي والعشرين، وكل ما يطلب أو سيطلب منهم سينفذونه بالحرف صاغرين لأنهم تبع وأصحاب أدوار وظيفية محددة، ومؤشرات الواقع تدل على أن الهدف ما يزال متمحورا حول إمكانية إشعال حرب طائفية في المنطقة وهو يتقدم على غيره طالما أن مثل هذه الحرب الممكنة ستضمن استمرار دوران عجلة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي والأطلسي ووقودها في غالبيته الساحقة ممن تم تحضيرهم عبر عقود ليكونوا حطب إحراق المنطقة، وعائدات النفط والغاز الخليجي  تتكفل بدفع كل دولار يصرف مضاعفاً ومع الشكر والامتنان لطواغيت الكون في القرن الحادي والعشرين.

10- على الرغم من خطورة ما يتم تنفيذه في الشمال والشرق، فالخطر الأكبر على سورية بخاصة والمنطقة بعامة يبقى من الاتجاه الجنوبي، وفي ضوء هذا يمكن فهم حقيقة ما يتم التحضير له لإقامة ما أسموه "الجدار الطيب" لصالح الكيان الصهيوني يمتد من أطراف جبل الشيخ شرقا إلى نهاية الحدود السورية الأردنية، مع العمل بالتزامن على ضمان إقامة حاجز جغرافي وديمغرافي يمتد من الحدود التركية إلى الرقة فدير الزور وصولا إلى مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية لضمان منع تواصل النبض المقاوم من طهران إلى بغداد فدمشق والضاحية الجنوبية وما بعدها، والتهديد بإشعال المنطقة في كل مرة تحت ذرائع مختلفة، كما حدث في مسرحية استعمال السلاح الكيميائي في خان شيخون، وما أعقبه من عدوان أمريكي بصواريخ /التوما هوك/ على مطار الشعيرات، وما تلاه من جرائم ومجازر ارتكبتها المجاميع الإرهابية المسلحة بحق أهل كفريا والفوعة بعد وصولهم إلى حي الراشدين أربعة، وبشكل منظم ومخطط له بإحكام لإطلاق الحمية الطائفية والمذهبية، وتصوير ما يجري على أنه ليس حرباً بين الدولة السورية وحلفائها من جهة وبين الإرهاب التكفيري ورعاته الإقليميين والدوليين من جهة ثانية، بل هو حرب سنية ـ شيعية بين إيران وسورية وحزب الله من جهة وبيت السعودية ودول الخليج (الفارسي) وتركيا من جهة ثانية، وهنا مكمن الخطورة الأعظم التي تهدد شعوب المنطقة ودولها، والتي لا يمكن لأقطاب محور المقاومة السماح بتمريرها تحت أي عنوان كان.
الخلاصة:

من كل ما تقدم يتضح أن معالم النهاية المأمولة لهذه الحرب المفروضة ما تزال غير مرئية جراء تشابك وتعقد مسرح تفاعل الاشتباك العسكري والسياسي إقليمياً ودولياً، وإذا كانت أطراف المشروع التفتيتي تسير وفق ما هو مرسوم بدقة، فإن مواقف الدول الداعمة لمحور المقاومة ما تزال غير محسومة بالمطلق، انطلاقا من أن السياسة فن الممكن، ومن حق المتابع أن يتساءل: ألم يكن إقدام ترامب على إعطاء الأوامر باستهداف مطار الشعيرات وهو يستقبل الرئيس الصيني صفعة مؤلمة للصين التي اكتفت لاحقا بالامتناع عن التصويت على مشروع القرار الذي كان مقدماً إلى مجلس الأمن لإدانة الدولة السورية؟ وهل من مصلحة روسيا الاتحادية الصاعدة كقطب مكافئ أن تزداد فاعلية الدور الإيراني في وضع حد لهذه الحرب المفروضة على الدولة السورية منذ أكثر من ست سنوات؟ وبكلام آخر ألا تعني زيادة فاعلية الدور الإيراني إقليمياً ودولياً توزيعاً لنفوذ المحور المناهض لمحور التقسيم والتفتيت؟ فكيف يمكن تحويل هذا التحدي وغيره إلى فرصة يمكن البناء عليها؟؟.

باختصار شديد يمكم القول: ما تزال المنطقة مرشحة لمزيد من التصعيد الميداني عسكرياً واقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً، والركون إلى مفرزات الواقع تثبت أن واشنطن وحلفاءها يذعنون لمنطق توازن الردع والرعب، وما كوريا الشمالية ببعيدة عما نتحدث عنه، وسيضطر الكاوبوي الأمريكي لابتلاع لسانه وخفض ذيله ووضعه بين جنبيه على عكس ما تسوقه السياسة الهوليودية التي لا تجد مرتسما على أرض الواقع للسوبرمان الأمريكي، والأيام القادمة كفيلة باتضاح حقائق جديدة تترك بصماتها على طرفي معادلة توازن القوى إقليمياً ودولياً.

بقلم: د. حسن أحمد حسن *
...............
*باحث متخصص بالدراسات الاستراتيجية ـ دكتوراه في الجيوبولتيك والعلوم السياسية.
للتواصل مع الكاتب:
dr.hasanhasan2012@gmail.com