فرنسا.. الجراح القديمة 

فرنسا.. الجراح القديمة 
الأحد ١٦ يوليو ٢٠٢٣ - ٠٨:١٩ بتوقيت غرينتش

المظاهرات التي طغت على العاصمة والعديد من المدن الفرنسية الأخرى خلال الأسابيع الأخيرة، والتي وصفتها حكومة هذا البلد بـ "الفوضى"، اجتذبت انتباه الأوروبيين، وكانت السبب في توجيه اللوم الى ماكرون وحكومته لعجزهما في السيطرة عليها. بالطبع، شهدت فرنسا خلال العقود الاخيرة العديد من المظاهرات على هذا المستوى، لكن هذه المظاهرة وُصفت بأنها "غير مسبوقة".

العالم - مقالات

هناك عدة نقاط في هذا الخصوص نشير اليها فيما يلي:

1- المظاهرات الحالية في فرنسا ليس لها اي توجه وجانب نقابي، ولم تحدث لغرض حل قضية معيشية أو ما شابه، كما انها ليست مثل حركة السترات الصفراء التي سيطرت على فرنسا لأشهر عدة. انها انتفاضة سياسية انطلقت ضد هيكل الحكم وتهدف إلى تغيير الوضع العام لفرنسا. النقطة المهمة في هذه المظاهرة هي التمرد ضد النظام الحالي لفرنسا، وبعبارة أخرى النظام الحالي لأوروبا. وبغض النظر عن بعض الأحداث التي شهدتها، فهذه انتفاضة غير تقليدية تهدف الى استعادة الحقوق الانسانية المنتهكة، لهذا السبب يشعر الغرب بالتهديد، لانه إذا كانت حركة نقابية مثل حركة السترات الصفراء او كانت حركة احتجاجية على سياسة أو عدة سياسات وبرامج وقرارات اقرتها السلطة، لم عارضتها باقي الدول الأوروبية. هذه الحركة تقول لماذا لا تُحترم حقوق الإنسان وحياة الإنسان في فرنسا. لماذا لا يُسمح لغير البيض بالدفاع عن حقوقهم؟ انهم يقولون ، ما هذا الحكم الذي يحول ضباط الامن إلى قتلة للناس؟ .

2- كان زخم المظاهرات شديد للغاية. عندما تضطر الحكومة الفرنسية إلى استخدام الجيش للسيطرة على المظاهرات، فهذا يعني أن قوة المتظاهرين أكبر من قوة الشرطة والنظام الأمني ​​في باريس ومرسيليا وغيرها، هذا في حين أن فرنسا لديها واحدة من أقوى قوات الشرطة في العالم. الطريف أن المتظاهرين يسألون لماذا سمح للشرطة بان تقتل "نائل" الفتى البالغ من العمر 17 عاما في أحد شوارع مدينة نانتير ، فيما أرسل ماكرون عددا كبيرا من وحدات الجيش وزاد من عدد قوات القمع إلى ضعفين وثلاثة أضعاف! وكانت نتيجة هذه الحكمة الإدارية أنه حسب إعلان وزير الداخلية تضررت 120 آلية عسكرية خلال أيام قليلة. وبحسب بيان قائد شرطة باريس، فقد تم اعتقال 4000 شخص في هذه التظاهرات، عدى عمّن تم اعتقالهم في الشارع وإطلاق سراحهم بعد تحديد هويتهم وتحذيرهم. شدة الاحتجاجات الشعبية دفعت صحيفة "لوفيجارو" إلى تكتب بصراحة أن فرنسا عجزت عن إخراج الشوارع من سيطرة معارضيها. في غضون ذلك، حاول الغرب من خلال تسليط الضوء على الأضرار الاقتصادية لهذه التظاهرة إثارة موجة شعبية ضدها . لذلك في 13 يوليو، نقلت دويتشه فيله عن رئيس حركة رواد الأعمال الفرنسيين في مقابلة مع صحيفة باريزيان، أن الاحتجاجات الأخيرة تسببت في أضرار تقدر بمليار يورو للاقتصاد الفرنسي وأضرت بصورتها السياحية. وسواء كانت هذه الإحصائية صحيحة أم تم تسليط الضوء عليها اكثر من اللازم ، فإنها تظهر أن فرنسا تحاول إجبار النقابات العمالية على مواجهة المحتجين.

3- التظاهرات تفجرت بعد أن أطلقت الشرطة النار على "نائل"، وهو مراهق فرنسي يبلغ من العمر 17 عاما، بتهمة عدم الالتفات إلى تحذير الشرطة، وذلك على الرغم من أن الشرطة ليست جهازاً أمنيا، حتى يتم تبرير استخدامها للعنف، فالشرطة في كل مكان واي جانب كونها ضابطا قضائيا، مسؤولة أيضا عن حماية أرواح الناس وممتلكاتهم. ورغم ذلك، وبدلاً من الاعتذار للشعب، أكدت الحكومة على صحة عمل الشرطة. في غضون ذلك، واصل ماكرون مسيرته ولم يغادر المحتجون الساحة، وهذا ما وضع فرنسا في موقف معقد. ورغم أن التظاهرات بدأت في البداية احتجاجا على سلوك الشرطة، إلا أنها لا تركز على تغيير سلوك الشرطة وموجهة نحو نظام الحكم بأكمله. وانتشرت التظاهرات بسرعة لتصل الى العاصمة وتورط النظام بأكمله. الدول المجاورة لفرنسا، والتي شعرت بالخوف حيال تمدد هذه المظاهرات المناهضة للعنصرية إلى مدنها، انتقدت أداء الحكومة الفرنسية ودعت إلى اتخاذ إجراءات جادة. لكن نبرتها في هذا الاحتجاج لم تكن الانحياز إلى مطالب المتظاهرين، بل شدّدت على الإنهاء السريع للحادث، الأمر الذي يتطلب تصعيدا للعنف. في غضون ذلك، رأى المتظاهرون الفرنسيون ، الذين اعتقدوا أن الأحزاب المعارضة للحكومة ستدعمهم، أنه لا يوجد اي دعم لهم. فالأحزاب اليمينية مثل لوبان شددت على ضرورة قمع هذا التيار الاجتماعي أكثر من حكومة ماكرون. الأحزاب اليمينية شعرت أنها ستواجه وضعا أكثر صعوبة إذا فشلت في مواجهة هذه الحركة الاحتجاجية. هذه الأحزاب النقابية لم تتماشى مع المطالب التي أثيرت في بيانات حركة المتظاهرين، ورغم ذلك استمرت الحركة.

4- هذه الحركة لها جانبان رئيسيان، جانب مناهضة التمييز العنصري وجانب التمييز العنصري ، ومن وجهة نظر أخرى هذه الحركة هي حركة "الآخرين" في فرنسا. الاخرون هم أولئك الذين يكتبون و "إلخ" في النصوص ولا يستحضرون اية هوية. لكن الحقيقة هي أن المتظاهرين في الغالب يتمتعون بهوية مميزة أكثر من هوية الشرطي الذي لجأ إلى قتل الناس. باختصار ، هؤلاء "الآخرون" هم السكان الأصليين الذين تم منحهم زورا لقب عناصر أجنبية ويحاولون تقديمهم على أنهم يمتلكون "أيديولوجية" خاصة. هؤلاء الملونون هم السكان الأصليين لهذه الأرض، والذين لديهم على الأقل 200 عام من التاريخ في أوروبا. الفتى البالغ من العمر 17 عاما الذي قُتل لو لم تكن له جذور في فرنسا لما كان له كل هذا الوقع بين المتظاهرين. هؤلاء هم مزيج من الأفارقة والآسيويين والمسلمين الذين جاؤوا إلى هنا بسبب الاستعمار الفرنسي ويحظون باحترام ومكانة كبيرة بين الشعب الفرنسي.

5- مطالب الشبان الفرنسيين المتظاهرين بغض النظر عن كيفية ظهورها تحمل في طياتها جانبا تحرريا واحتجاجيا ضد الظلم ويتم متابعتها بشجاعة. قبل حوالي عشر سنوات وفي رسالة وجهها إلى الشباب في أوروبا وأمريكا الشمالية، استعرض قائد الثورة الاسلامية في قائمة من الأفعال المخزية للغرب وخاصة أوروبا، بما في ذلك قمع الملونين، اضطهاد غير المسيحيين، العبودية، احتلال البلدان واستعمار الدول، والتي يمكن اعتبارها تنبؤا بالحركات الأخيرة في أوروبا وخاصة في فرنسا. وأكد سماحته في نفس الرسالة ، "أنا لا أخاطب ساستكم ومسؤوليكم لأنني أعتقد أنهم فصلوا بوعي مسار السياسة عن طريق الصدق والاستقامة".

6- ما يجري اليوم في شوارع باريس ومرسيليا وغيرهما، هو حركة ضد نفس المظالم والأعمال المحرجة التي وردت في رسالة عام 2013 التي وجهها قائد الثورة الاسلامية الى شباب أوروبا وأمريكا الشمالية. هذه الحركة وبغض النظر عن كيفية حدوثها يمكن ان تكون مقلقة ومربكة بالنسبة للحكومات الغربية. لقد رأوا النتائج السياسية التي تتمخض عن مثل هذه التحركات ويعتقدون أن مثل هذه الرسائل، المتأصلة في طبيعة الناس وضميرهم، يمكن أن تملأ الفراغ النظري والأيديولوجي للحركة الاجتماعية وبالتالي تؤتي اكلها. إذا حققت هذه الحركة هدفها في فرنسا، فمن حيث أن هذا البلد له جانب رمزي ومثالي بالنسبة لبقية الدول الأوروبية، ومثلما امتدت الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر إلى بقية دول هذه القارة، ان التغييرات الاساسية في الهيكل السياسي الحالي لفرنسا يمكن ان يؤثر أيضًا على بقية الدول الأوروبية، ولذلك نرى ان الصحف الأوروبية ذات التوجهات الليبرالية الديمقراطية أو الاشتراكية الديمقراطية اضطفت في مواجهة هذه الحركة الاجتماعية.

سعدالله زارعي