شعب يرفض الخضوع.. ومليشيا تحاول إعادة إنتاج الموت في ثوب جديد
كتب الروائي السوداني عبدالعزيز بركة ساكن هذه الكلمات منذ سنوات، لكنه وصف بها بدقةٍ مدهشة ما نشهده اليوم من جرائم ترتكبها قوات الدعم السريع في دارفور. المليشيا التي وُلدت من رحم "الجنجويد" عادت لتعيد سيناريو الإبادة الجماعية، ولكن هذه المرة تحت غطاء جديد، وبدعم إقليمي لا تخطئه العين.
الإبادة تعود..في وضح النهار
من الفاشر إلى نيالا والجنينة، تتصاعد رائحة الموت من كل ركن. قرى أُحرقت، نساء اغتُصبن على الملأ، أطفال اختفوا في النزوح، وشيوخ أُعدموا دون محاكمة. تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة توثق ما يحدث بلغة صارمة عمليات قتل جماعي وتطهير ممنهج ضد المدنيين، وجرائم ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
في أكتوبر 2025، قُدر عدد السودانيين المحتاجين لمساعدات إنسانية بأكثر من 9.6 مليون إنسان، نصفهم تقريباً من إقليم دارفور وحده. ومع كل يوم جديد، تزداد صور الأقمار الصناعية وضوحاً: بقع دم، مقابر جماعية، وقرى اختفت من الخريطة.
الإبادة كأداة للهيمنة
لم تعد الحرب في دارفور مجرد صراع على الأرض أو النفوذ، بل أصبحت وسيلة لتغيير التركيبة السكانية وإخضاع المجتمعات الرافضة.
تستخدم قوات الدعم السريع سياسة الأرض المحروقة والتجويع الممنهج كأدوات حرب، في محاولة لتركيع السكان المدنيين وكسر روح المقاومة الشعبية. يقول ناشط ميداني من الفاشر: "هم لا يريدون الأرض فقط، بل يريدون محو الناس الذين يعيشون عليها."
رواية الشعب في مواجهة السردية المفخخة
في وقتٍ يسارع فيه الإعلام الدولي لوصف ما يجري في السودان بأنه "حرب أهلية"، يصحح السودانيون أنفسهم المصطلح "ليست حرباً أهلية... إنها حرب إبادة تشنها مليشيا ضد شعب أعزل."
التحذيرات التي أطلقها ناشطون وإعلاميون سودانيون أكدت أن معركة اللغة لا تقل أهمية عن معركة الميدان، لأن مصطلحات مثل "انتهاكات" أو "صدامات" تُخفف من وقع الجريمة وتُشرعن المجرم. ولذلك، يُصر الشارع الثوري على أن رواية السودان يجب أن تُروى بلسانه، لا بلسان الخارج.
رفض شعبي شامل... لا مكان للجنجويد
في بيانات متتابعة، أعلنت لجان المقاومة وحركة الشباب الثوري السودانية رفضها الكامل لأي وجود لقوات الدعم السريع في مستقبل السودان.
جاء في أحد بياناتهم:"ليس هنالك أبداً وجود للجنجويد في السودان الذي نريد."هذا الموقف الشعبي الواضح يعيد رسم معادلة القوة على الأرض، إذ يُدرك السودانيون أن الثورة لا تكتمل دون استئصال المليشيات التي قامت على الدم والنهب.إنه وعيٌ جمعي يرى في العدالة والمحاسبة الطريق الوحيد للسلام الحقيقي، لا التسويات الهشة التي تؤجل الكارثة.
سيناريوهات المستقبل:
الإنقاذ عبر الضغط الدولي: يتطلب موقفاً موحداً من المجتمع الدولي بفرض حظر تسليح فعال، وفتح ممرات إنسانية آمنة، ومحاسبة القادة المسؤولين عن الجرائم.
هذا السيناريو يظل ضعيف الاحتمال ما دام الدعم الخارجي مستمراً.
جمود الحرب وتفكك الدولة:
استمرار الصراع يعني توسع النزوح، وانهيار البنية التحتية، وتحول السودان إلى ساحة صراع إقليمي مفتوح.
ترسيخ الإبادة وسيطرة المليشيا:
وهو سيناريو كارثي يعيد إنتاج نموذج "الدولة الميليشياوية"، حيث يحكم الرعب والولاء القبلي بدل القانون والدستور.
الذاكرة لا تُمحى
دارفور اليوم ليست مجرد قضية محلية، بل جرحٌ مفتوح في الضمير الإنساني.قد ينجح القتلة في إحراق القرى، لكنهم لن يحرقوا الذاكرة.ففي كل بيت سوداني حكاية عن أمٍ فقدت أبناءها، وعن طفلٍ لم يعد من طريق النزوح، وعن مقاومٍ كتب بدمه أن السودان لن يكون وطناً للمليشيات.
كما قال أحد الثوار في ميدان الفاشر: "قد يقتلون الجسد، لكنهم لن يقتلوا الحكاية."
وبرغم الرماد، تبقى دارفور شاهدة على أن الشعب السوداني أقوى من الرصاص، وأقدر على صناعة مستقبلٍ بلا جنجويد.
*أسامة الشيخ /باحث ومحلل سياسي من السودان