الإنسان مرهون بعمله

الإنسان مرهون بعمله
الجمعة ٠٧ أكتوبر ٢٠١١ - ٠٨:١١ بتوقيت غرينتش

إنّ الإلتزام بالقرآن الكريم والإهتداء بهدايته والعمل بموجب أحكامه من تنفيذ أوامره ومندوباته والإنتهاء عن محرماته ومنهياته يعود نفعه على الإنسان وحده فرداً كان أو مجتمعاً إن إلتزمَ سائرُ أفراده بما إلتزم به هذا المؤمن.

(مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) (الإسراء/ 15).
أنزل الله تبارك وتعالى القرآن الكريم وفيه كل ما يحتاجُ إليه الإنسان في دنياه وآخرته؛ ففيه الحلال والحرام، والأمرُ والنهي، والترغيب والترهيب، كلّ ذلك بأوضح أسلوب وأسهلِهِ وأَيسره. فإذا ما أخذ به الإنسان وعمل بموجبه، فأحلَّ حلالَهُ وحرَّم حرامه ونفَّذَ أوامره واجتنب نواهيه رغبتةً ورهبةً، فقد سار على المنهجِ القويم الذي يحقِّقُ خيرَ الدنيا وسعادة الآخرة.
والقرآن الكريم بهذه المثابة كتابُ هدايةً لأنّه يرشدُ إلى المنهج الأقوم والسبيل الأعدل. ولكن هدايته لا تتحقق بمجرد نزوله أو تواجده بين الناس في بيوتهم ومساجدهم فحسب، بل يتحقق عندما يأخذوا به، ويعملوا بموجبه، وهذا يتطلّبُ منهم واجبات عدة تجاهه:
1- تلاوته مع ترتيله وضبط أحكامه، والإجتهاد في ذلك حتى يقرأه المسلم كما أنزله الله تبارك وتعالى على رسوله (ص)؛ ويكون المسلم حينئذ منفِّذاً لأمر الله تبارك وتعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) (المزمل/ 4).
2- تدبّره؛ ومعنى ذلك تفهّمه، ومعرفة أحكامه من حلالٍ وحرام وأمر ونهي ونَدْب وإباحة ويكون بذلك مطيعاً لأمر الله تعالى القائل: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29).
3- العمل بموجبه؛ فيحلُّ حلاله، ويحرِّم حرامَهُ، ويسابق إلى الخيرات والطاعات التي دعا إليها، ويتباعد عن المكروهات التي نهى عنها، ويكون بذلك منفّذاً لأوامر الله تعالى القائل: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف/ 203).
4- حفظ آياته: ليكون هذا الحفظ معيناً على فهمه والعمل به، ومذكِّراً له للعمل به فيما بعد، وليستعين بما حفظه في صلاته وفي أحاديثه تعليماً وإرشاداً.
5- دعوةُ الناس إليه؛ وذلك بعد أن استضاء المرء بنور القرآن وأيقَن أنّه الكتاب المُرسل مِن الله تعالى لهداية الخَلقِ ونجاحهم وسعادتهم، ومن قرأه أثيبَ، ومن عَمِلَ به هُدِيَ وتمتَّع بنعمة الله تعالى عليه. فإنّه من باب الشكر لله عزّوجلّ على نعمته حِرْصُ المؤمن على إيصال هذا الخير العظيم للناس حتى لا يستأثر به لنفسه؛ بل يسعى جهده لتبليغه للناس لعلّهم يهتدوا بهديه ويستضيؤوا بنوره، ويكون بذلك مطيعاً لأمر الله تبارك وتعالى القائل: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت/ 33).
إنّ الإلتزام بالقرآن الكريم والإهتداء بهدايته والعمل بموجب أحكامه من تنفيذ أوامره ومندوباته والإنتهاء عن محرماته ومنهياته يعود نفعه على الإنسان وحده فرداً كان أو مجتمعاً إن إلتزمَ سائرُ أفراده بما إلتزم به هذا المؤمن.
وإذا كان النفع الحاصل من هذا الإهتداء عائدٌ للمُهتدي فلا ينبغي عليه أن يمنَّ أو يتبجَّح بصلاحه وتقواه، لأنّ هذه الهداية كانت بتوفيق الله تبارك وتعالى، وإن نفعَها عائدٌ عليه، لا ينتفع الله تعالى بها ولا يحتاج إليها. ولقد وبَّخ الله تبارك وتعالى أُناساً جاؤوا إلى النبي (ص) يمنّون عليه أن دخلوا في الإسلام، قال تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات/ 17).
وكما أن إهتداء الإنسان بنور القرآن الكريم يعودُ خيرُهُ ونفعه على المهتدي، فإن مَن أعرضَ وإنصرفَ إلى غيره فقد ضلَّ سواءَ السبيل التي تُوصِلُهُ إلى مرضاة ربّه. وإذا سلكَ الإنسان الطريق التي لا توصلُهُ إلى مرضاتِ ربه؛ فإنّ الطرق الأخرى تؤدّي به إلى عاقبة الغضب والعذاب والألم.
إنّ الإنسان الذي يعرِضُ عن الإهتداء بنور القرآن الكريم لا يُخسِرُ هذا الدين شيئاً، ولا يؤذي ربَّه تبارك وتعالى بجُرمِهِ هذا، إن وبالَ أمره وعاقبةَ ضلاله تعودُ عليه وحده ولا تعود على غيره من الناس سواء كانوا صالحين أو ضالّين.
إنّ لكل عملٍ يعملُهُ الإنسان نتيجةً، وهذه النتيجة تعودُ عليه وحدَهُ، لا تتعدّاه لغيره إن أحسن لقي ثواب إحسانه وإن أساء لقي عقاب إساءته؛ وهذه النتيجة على الأعمال يلقاها الإنسان يوم القيامة في الحساب لا تخطِئُهُ ولا تتخطّاه إلى غيره، ولقد جاء تأكيدُ هذا المعنى في قوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام/ 164)، أي لا يخطر في بالك أيها الإنسان أنّ النفس التي تحمل وزراً يوم القيامة ستحمل وزرَ غيرها، إن كل نفس تأتي بآثامها وتبعاتها فلا تتخلّص نفسٌ من تبعاتها بأن تُلقي أوزارها على غيرها لتنجو من العقاب الأليم، كما أن صاحب العمل الصالح يجد عمله في صحيفته يوم القيامة لم يخطئه ولم يتخطّاه إلى غيره. ولقد أرشد المولى جلّ وعلا أنّ العمل يلازم صاحبه يوم القيامة؛ يُسأَل عنه، ويُحاسب عليه كما في قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء/ 13).
وقد يعترض قائلٌ في القرآن الكريم ما يُفهم منه أنّ الإنسان يؤجَرُ على فعل غيره ويُعاقَبُ على ذنب غيره؛ فأما أجره على فعل غيره فمثاله قول الله تبارك وتعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) (النساء/ 85). وأما عقابه على ذنب غيره فكما في قول الله تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (النحل/ 25)، فالجواب أنّ الآية الأولى أشارت إلى أنّ الإنسان يكون له نصيبٌ على قيامه بالشفاعة المحمودة لغيره، وأن له كفلاً أي مقداراً من الإثم إن شفع شفاعةً سيِّئة؛ فنصيبه من الأجر وكفله من الإثم على عمله في الشفاعة التي قام بها.
وأمّا الآية الثانية فقد بيّنت بوضوح أنّ الذين يحملون أوزارهم وأوزاراً أُخرى مع أوزارهم إنّما حملوها جزاء إضلالهم لغيرهم بغير علم. فالآية تشير إلى نوعين من الآثام:
- نوعٌ يفعله المرء بنفسه فيحمل وزره، وإليه الإشارة في قوله تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...) (النحل/ 25).
فالآيتان في الحقيقة تؤكّدان حكم الآية موضوعنا وهو أنّ الإنسان يُحاسَبُ على عمل نفسه. وفي هذه الآية الكريمة قطعٌ لأطماع المغرورين الذين يستجيبون لإضلال غيرهم بأن إثم الضلال يعود على المُضِلِّ وأن من استجاب له لا يلحقه شيءٌ من الذنب. وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نزلت في الوليد بن المغيرة قال لأهل مكة: اتبعوني واكفروا بمحمد وعليَّ أوزارُكُم" فنزلت هذه الآية ؛ أي أنّ الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه.
إنّ الذنوب التي يحملها الضالّ المُضِلّ يوم القيامة عظيمة هائلة ينوء بحملها لثقلها وأنّ القرآن الكريم أشار إلى هذا الثقل بقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ)، والوزر هو الحمل الثقيل الذي ينوء به صاحبه. والوالدة تَلقى ولدها يوم القيامة فتقول: يا بني، أَلم يكن حجري لك وطاء؟ ألم يكن ثديي لك سقاء؟ ألم يكن بطني لك وعاء؟ فيقول: بلى يا أُمّه. فتقول: يا بني، فإن ذنوبي أثقَلَتني فاحمل عني منها ذنباً واحداً، فيقول: إليكِ عني يا أُمّه، فإني بذنبي عنكِ اليومَ مشغول. وفي معناه نزلت الآية (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (عبس/ 34)؛ وفيه دليلٌ على ثقل أوزار العُصاة يوم القيامة عصمنا الله من المعصية.
وقد يَستدلّ المعترض، القائل بموآخذة الإنسان بفعل غيره، بحديث النبي (ص): "إنَّ المَيِّتَ ليُعَذَّبُ ببعض بُكاءِ أهلِهِ". فقد حمل بعض أهل العلم الذنب الذي يُعاقَب عليه الميت بوصيّته لأهله قبل موته بالبكاء عليه كما كانت عادة الجاهلية. ويرى البعض الآخر أنّ عذابه ببكاء أهله عليه لجهلهم بالنهي عنه، وتقصيره في تعليمهم أمور دينهم، ونهيهم عما أُمروا بالكف عنه فهو عذابٌ لتفريطه في تأديبهم وتقصيره في الواجب عليه الذي ألزمه القرآن الكريم به في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا...) (التحريم/ 6). وكما يُفهم من الآية الكريم أنّ الإنسان يُحاسب على أعمال نفسه ولا يُحاسب على أعمال غيره، ولا غيره يحاسب عنه سواء كانت هذه الأعمال خيِّرة أو مُنكَرَة. ويُفهم منها كذلك أنّ الإنسان إذا رأى غيره على ضلالة وإثم فلا ينبغي له أن يعمل مثله، وإذا وُعِظَ وذُكِّر قال كما قصَّ القرآن الكريم عن المجرمين: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 22).
خُلق الإنسان في هذه الدنيا وفيه القابلية للخير والشر، والإيمان والكفر، والهدى والضلال. وإذا ضلّ الإنسان وعصى وغوى استحقَّ المَقتَ والعقاب، فإذا تمادى في ضلاله إلى حد الطغيان استحقَّ حينئذ أن يُعاقَب في الدنيا قبل الآخرة ردعاً لغيره من الإقتداء به. لقد تجلّى الله تبارك وتعالى على عبداه برحمته الواسعة حيث لا يُنزل بهم عذاباً في الدنيا أو يعاقبهم بعذاب أُخروي إلاّ بعد أن يُرسل إليهم رسلاً من عنده يدعونهم إلى الهُدى ويحذّرونهم من الردى كما بين ذلك ربّنا تبارك وتعالى بقوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) (طه/ 134). فإذا ما جاء أُمّةً نذيرٌ من عند ربها فقد أقام عليها الحجّة؛ فمن عاندَ بعدئذ وأصرَّ على كفره وضلاله فقد استحق العذابَ الأليم لإنتفاء العذر.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبّتنا على الهدى، وأن يحفظنا من نزغات الشيطان ووساوسه. اللّهمّ أحيِنَا مسلمين، وتوفَّنا مؤمنين، وأَلحِقنا بالصالحين، والحمد لله ربّ العالمين. 

تصنيف :