الإحتجاجات الأميركية ومستقبل الأنظمة الرأسمالية

الإحتجاجات الأميركية ومستقبل الأنظمة الرأسمالية
الخميس ٠٣ نوفمبر ٢٠١١ - ١٠:١١ بتوقيت غرينتش

تحدث الزعماء الأميركيون والأوربيون الغربيون كثيراً عن الحدث الاحتجاجي السياسي الشرق أوسطي، على أساس اعتبارات ضرورة أن تسعى الأمم المتحضرة الغربية لجهة القيام بدعمه وإسناده بما يؤدي إلى نشر الديمقراطية، ولكن هؤلاء الزعماء بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم تفادوا الحديث عن الحدث الاحتجاجي السياسي الأميركي، الذي حمل شعار احتلوا وول ستريت: فما هي طبيعة الحدث الاحتجاجي السياسي الأميركي، وما هي محفزاته، وما هي تداعياته الماثلة والمؤجلة على المستقبل السياسي الأميركي؟

* مسرح الحدث الاحتجاجي الأميركي: توصيف الفعاليات الجارية

تقول المعلومات والتقارير بأن مجموعة من المتظاهرين الأميركيين قد تجمعت في مدينة نيويورك، كبرى المدن الأميركية، واندفعت باتجاه منطقة وول ستريت، التي تمثل المركز التجاري ـ المالي الأكبر في الولايات المتحدة الأميركية والعالم، وتقول المعلومات بأن الحدث الاحتجاجي الأميركي النيويوركي، تميز بالآتي:

• الرفض الشديد لسيطرة ونفوذ المنشآت الأميركية، على عمليات صنع واتخاذ قرار السياسة الأميركية الداخلي والخارجي.احتجاجات وول ستريت في وسط نيويورك

• الرفض الشديد للفوارق الكبيرة في معدلات الدخل وتوزيع الثروة بين الشرائح الاجتماعية الأميركية.

• المطالبة بإعطاء الديمقراطية الأميركية طابعاً اجتماعياً إنسانياً.

انطلقت فعاليات احتجاجات احتلوا وول ستريت في يوم 17 أيلول (سبتمبر) 2011م الماضي وما زالت مستمرة، برغم بداية فصل الشتاء النيويوركي البارد الممطر، هذا وأضافت التقارير بأن الحركة تميزت بتزايد فعالياتها التصعيدية، والتي شملت خلال شهرها الأول في مدينة نيويورك وحدها الآتي:

• قيام بضعة آلاف بالاعتصام في منطقة وول ستريت بشكل مستمر.

• قيام بضعة آلاف بتسيير موكب احتجاجي ضد رئاسة شرطة نيويورك.

• قيام بضعة آلاف بمسيرة كبيرة عبرت جسر بروكلين.

• قيام بضعة آلاف بمسيرة كبيرة في منطقة مانهاتن السفلى.

• قيام بضعة آلاف بمسيرة كبيرة في منطقة ميدان تايمز سكوير.

هذا، إضافة إلى عشرات المسيرات الاحتجاجية الصغيرة، وإضافة إلى استمرار عملية الاعتصام الشعبي في منطقة وول ستريت، فقد جرت عمليات مماثلة في المدن الأميركية الكبيرة الأخرى، وبالذات عواصم الولايات.

 * محفزات الاحتجاجات السياسية الأميركية

تحدثت العديد من التحليلات السياسية والاقتصادية عن الأسباب التي دفعت إلى اندلاع حركة الاحتجاجات السياسية الأميركية، ومن أبرز الأسباب تمت الإشارة إلى الآتي:

• على المستوى الاقتصادي: تزايد معدلات البطالة ـ عدم توافر نظام الضمان الصحي ـ عدم توافر نظام الضمان الاجتماعي الخاص بتعويضات البطالة، وتعويضات الفقر ـ تزايد معدلات التضخم وارتفاع الأسعار ـ وانخفاض سعر الدولار، بما أدى إلى انخفاض قدرة المواطن الأميركي الشرائية، إضافة إلى تدهور مستوى المعيشة.

• على المستوى السياسي: سعت منشآت دوائر الأعمال الأميركية، لجهة تنظيم نفسها ضمن مجاميع وفقاً لصيغة منظمات أصحاب العمل، واستطاعت كل واحدة منها أن تتبنى مجموعة من السياسيين الأميركيين، الناشطين داخل الحزبين الكبيرين الديمقراطي والجمهوري، وبالذات أعضاء الكونغرس الأميركي إضافة إلى رموز الإدارات الأميركية، إضافة إلى الشخصيات الإعلامية والصحفية النافذة، إضافة إلى مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية الأميركية، وذلك بما أتاح لهذه المنشآت التأثير الاستباقي على عملية صنع واتخاذ القرار السيادي الأميركي، بشقيه السياسي والاقتصادي. الأمر الذي أدى إلى جعل كل قرار الإدارات الأميركية أكثر تحيزاً لجهة تلبية مصالح منشآت الأعمال على حساب حقوق المواطن، وكان من آخر هذه القرارات: زيادة الضرائب على المواطنين وتقليل الضرائب على الشركات والمنشآت.

تشير التوقعات إلى أن حركة الاحتجاجات السياسية والاقتصادية الأميركية، قد تبلورت بفعل ضغوط الأزمة الاقتصادية الزاحفة وتحيز عملية صنع واتخاذ القرار السياسي والاقتصادي، ومن المتوقع أن تأخذ حركة الاحتجاجات السياسية الأميركية طابعاً ضاغطاً زاحفاً أيضاً، وحتى الآن لم تفلح كل جهود احتواء هذه الحركة، والتي وإن بدأت صغيرة محدودة، فإنها سوف تستمر لفترة أطول بسبب تماسك قضاياها المطلبية، والتي تتجاوز ما هو سياسي باتجاه ما هو اقتصادي، الأمر الذي يجعل منها حركة احتجاجية تستند على مقومات هيكلية يصعب على الإدارة الأميركية احتواءها عن طريق الأساليب السياسية العادية.

 * خصائص الاحتجاجات السياسية الأميركية

تحدثت العديد من التحليلات والأوراق البحثية، عن طبيعة الاحتجاجات السياسية الأميركية، ضمن النقاط الآتية:

• الهدف: يوجد هدف واحد تسعى من أجله الجماعات الاحتجاجية، وهو الإصلاح النوعي على المستويين الاقتصادي والسياسي.

• الأسلوب: اعتمدت حركة الاحتجاجات السياسية الأميركية أسلوباً موحداً في كل المدن الأميركية الرئيسية وهو تسيير المواكب باتجاه المراكز التجارية والمالية، ثم ممارسة الاعتصامات السلمية.

• الشمول: لم تنحصر المشاركة في الاحتجاجات على أي فئة دينية أو عرقية دون غيرها، وإنما شاركت فيها جميع الشرائح الاجتماعية الأميركية، وبالذات الشرائح الوسطى والمنخفضة الدخل والتي تشكل حوالي 99% من الشعب الأميركي.

• الاستمرار: ظلت الفعاليات الاحتجاجية مستمرة، بما أدى إلى استمرار الاعتصامات في المراكز المالية والتجارية الكبرى.

• التدرج: تميزت الاحتجاجات الأميركية بالضغوط الزاحفة المتدرجة.

هذا، وأبرز ما يميز الاحتجاجات السياسية الأميركية يتمثل في تزايد معدلات القوى الناعمة الرمزية، إضافة إلى تأثيرها المزدوج في مكونات الرأي العام الأميركي وبالذات قوى يمين الوسط الداعمة للحزب الجمهوري، وقوى يسار الوسط الداعمة للحزب الديمقراطي.

 * مستقبل الاحتجاجات الأميركية: إلى أين؟

التدقيق الفاحص في واقع فعاليات الاحتجاجات الأميركية يشير إلى التوقعات الآتية:

• أفضل سيناريو: وهو احتواء الاحتجاجات عن طريق الاستجابة لمطالبها، ولكننا نلاحظ أن الاستجابة لمطالب هذه الاحتجاجات غير ممكنة، لأن أقلها يتمثل في انتهاج الإدارة الأميركية لسياسة اقتصادية تعول على انتهاج الحمائية الاقتصادية وهو أمر يخالف قواعد تحرير التجارة، وإذا تورطت واشنطن في توسيع مظلة السياسات الحمائية الاقتصادية فهذا معناه أن أميركا تخلت عملياً عن عملية العولمة الاقتصادية، وإضافة لذلك، إذا سعت واشنطن لجهة زيادة الإنفاق على مشروعات التأمين الاجتماعي والضمان الصحي، فإن هذا معناه أن تقوم أميركا بزيادة الضرائب على الشركات والمنشآت الأمر الذي سوف يؤدي إلى تخفيض تدفقات رأس المال الاستثماري المباشرة وغير المباشرة.

• أسوأ سيناريو: أن تتوسع حركة الاحتجاجات وتأخذ زخماً شعبياً يصل إلى مستوى الإجماع، الأمر الذي سوف لن يتوقف عند حدود مجرد انهيار الإدارة الأميركية الحالية، والدعوة لانتخابات رئاسية وكونغرسية جديدة وحسب، وإنما سوف يمتد إلى برامج القوى السياسية الأميركية، والتي سوف يصبح حينئذ لزاماً عليها أن تنتهج سياسات يسار الوسط. بما يجعل من أميركا أكثر ميلاً لجهة التخلي عن الرأسمالية والتحول باتجاه الاشتراكية، الأمر الذي معناه تصدع النظام الرأسمالي العالمي.

• سيناريو الوسط: وهو السيناريو المعلق، والذي يفيد لجهة استمرار فعاليات هذه الاحتجاجات ضمن حجمها المحدود الآني، ويعتبر هذا السيناريو الأكثر خطورة، لأن مصيره سوف يرتبط باستمرار فعاليات الأزمة الاقتصادية الأميركية وضغوطها الزاحفة، إضافة إلى تزايد عمليات التعبئة السلبية الفاعلة المصاحبة لها، إضافة إلى أن استمرار هذا السيناريو المعلق سوف تترتب عليه مخاطر انتقال عدوى الاحتجاجات إلى كل من دول الاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا وبلدان جنوب شرق آسيا ذات الاقتصاديات المرتبطة بالاقتصاد الأميركي.

إذا، لقد اندلعت حركة الاحتجاجات التونسية وأخذت طابعاً عابراً للحدود الشرق أوسطية، ثم انتقلت عدوى هذه الاحتجاجات إلى بعض المناطق الأوروبية وبالذات بريطانيا، ثم بعد ذلك اكتسبت هذه الاحتجاجات طابعاً عابراً للحدود القارية، بما أدى إلى عبورها للمحيط الأطلنطي، وفي هذا الخصوص تقول المعلومات، بأن شرارة الاحتجاجات قد بدأت عندما قامت مجلة مملوكة لمؤسسة إعلامية كندية اسمها أدبوسترس، بنشر مقال طالبت فيه بضرورة قيام الفئات والشرائح المظلومة باحتلال منطقة وول ستريت الأميركية النيويوركية، حيث تتمركز كبرى المنشآت المتعددة الجنسية التي ثبت أنها تسيطر على ما يقرب من 60% من حجم الاقتصاد العالمي، ولاحقاً بعد ذلك تم التقاط الفكرة بواسطة بعض الشباب والناشطين السياسيين الأميركيين الذين اشتهروا بتوجيه الانتقادات للشركات والمنشآت والحكومة الأميركية لجهة مسؤوليتها عن الفقر وتدهور الأوضاع المعيشية والتسبب في الأزمات الاقتصادية الطاحنة، فهل يا ترى سوف تستمر فعاليات الاحتجاجات الأميركية أم أنها سوف تنخفض حرارتها مع انخفاض درجات الحرارة في مدينة نيويورك والتي سوف تبلغ الصفر المئوي قريباً!

*الجمل