مع بدء الانسحاب الأميركي.. العراق يقود ولا يُقاد

مع بدء الانسحاب الأميركي.. العراق يقود ولا يُقاد
الإثنين ٠٧ نوفمبر ٢٠١١ - ٠١:٥٨ بتوقيت غرينتش

على الرغم من الانشغال بالعديد من الهموم والمحن والمواجع المحيطة بنا، يُشكّل بدء انسحاب قوات الاحتلال الأميركي من العراق إنجازاً تاريخياً حاسماً، لا للشعب العراقي العظيم ومقاومته المجيدة فحسب، بل للأمة جمعاء ومعها كل القوى العالمية المتطلّعة نحو الحرية والعدالة.

وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية تسعى، وهي تعلن سحب قواتها، إلى الالتفاف على هذا الإنجاز عبر صيغ مختلفة منها إبقاء عسكريين تحت ستار التدريب أو حراسة السفارة الأميركية الأضخم في العالم، أو عبر شركات أمنية أو ما يسمى بالمقاولين الأمنيين، أو عبر الضغط المتواصل لتوفير الحصانة القانونية لهم، خصوصاً أن القانون الأميركي يشترط هذه الحصانة لبقاء أي عسكري أميركي خارج بلاده، إلاّ أن الالتفاف الأخطر على هذا الانسحاب يبقى في اعتماد المخططين في البنتاغون، أو في مجمّع الاستخبارات الأميركية، لخطة استخدمها الصهاينة مع كل مرحلة من مراحل انسحاب قواتهم المحتلة من لبنان بعد غزوه عام 1982، وهي خطة تأجيج الاحتراب الأهلي الدموي في كل منطقة يجبرون على الانسحاب منها، كما حصل في العاصمة والجبل وساحل الشوف وشرق صيدا، وهو الاحتراب الذي ما زالت آثاره وتداعياته ماثلة في حياة اللبنانيين وذاكرتهم.

 وعلى الرغم مما تعرّضت إليه المقاومة العراقية الباسلة من محاولات تعتيم وتهشيم وتشويه وتخريب وإفساد، واتهام بالإرهاب والمجازر، وهو اتهام لم ينحصر بقواها الوطنية والقومية والإسلامية فحسب، بل تعدّاها للنيل من سمعة كل مناصريها، سواء كانوا من شرفاء الأمة أم من أحرار العالم، بل إلى محاصرتهم ومطاردتهم أياً كانت مواقعهم، ومهما اختلفت انتماءاتهم، فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن هذه المقاومة العراقية كانت العامل الرئيسي، مع كل المقاومات الأخرى في لبنان وفلسطين وأفغانستان، في أن تحوّل العراق إلى مقبرة للأحلام الإمبراطورية الأميركية والصهيونية بعد أن ظنت إدارة بوش ومحافظوها الجدد وحلفاؤها الصهاينة المخططون، أن احتلال العراق سيكون مدخلاً لتحقيق تلك الأحلام والمشاريع التي تجعل من القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً.

 إن هذه الحقائق الثلاث المتصلة بالانسحاب الأميركي من العراق، أي الإنجاز الكبير، ومحاولات الالتفاف الأميركي، ودور المقاومة الرئيسي، تفرض بالمقابل جملة مهام من أجل أن يستكمل الانتصار العراقي على الاحتلال وكل أبعاده؛ خصوصاً أن في تاريخنا القريب والبعيد الكثير من الشواهد التي تكشف أننا كثيراً ما نجحنا في هزيمة الأعداء لكننا فشلنا في أن نبني الانتصار لبلادنا وأمتنا، والمجال لا يتسع هنا للتذكير بهذه الشواهد.

 أول هذه المهام التي نأمل تحقيقها هو أن نكسر جميعاً، على المستوى العربي والإسلامي، حاجز الخوف من السطوة الأميركية، فنقاوم إملاءات واشنطن السياسية، ونصمد في وجه ابتزازها المالي والنفطي، ونحاسبها على انحيازها المطلق للعدو الصهيوني، بل أن نخرج جميعاً من رهان الاستقواء بالإدارة الأميركية، حتى لا نقول "وهم الاستقواء"، على بعضنا البعض كما نشهد في بعض الملفات.

 فالمقاومة العراقية أثبتت منذ اللحظة الأولى لاحتلال بغداد في 9 نيسان/إبريل 2003، أن الإمبراطورية الأميركية المهيمنة على العالم ليست أكثر من نمر من ورق على المستوى الاستراتيجي، كما قال يوماً ماو تسي تونغ، وإن كانت تبدو نمراً حقيقياً على المستوى التكتيكي فتدمر وتقتل وتعدم وتسجن وتنهب وتجتث من تشاء، وحينما تشاء، معتمدة في ذلك على مظاهر القوة أكثر من الاعتماد على القوة نفسها، ومستندة إلى أسلوب استعراض التفوق أكثر منها على الإنجاز الفعلي.

 وإن مفاعيل الإقرار بهذه الحقيقة لا تنحصر بالماضي فقط، حيث المطلوب الاعتذار إلى هذه المقاومة وشهدائها وأبطالها وقادتها فحسب، بل ينبغي ترجمته في الحاضر والمستقبل أيضاً، باعتبار شهداء المقاومة شهداء الوطن، وقادتها قادة له، ومعتقليها أسرى احتلال ينبغي الإفراج الفوري عنهم، بل المطلوب إعادة الاعتبار لمنطقها ورجالها ومن وقف إلى جانبها رافضاً منذ الأيام الأولى للاحتلال أن يعتبر هذا الاحتلال تحريراً، وأن يعتبر كذلك التاسع من نيسان "يوم احتلال بغداد" يوماً وطنياً.

 وثاني هذه المهام التي نقترحها مع المعنيين أن نقرن التحرير المغمّس بدماء أكثر من مليون شهيد عراقي، وعذاب أضعافهم من الجرحى والمهجّرين داخل بلادهم وخارجها، بالمصالحة الوطنية العراقية الشاملة التي لا تستثني إلاّ من يستثني نفسه، ولا تستبعد إلاّ من يستبعد ذاته، مصالحة تنهي هذا المسلسل من الصراع الدموي المتواصل منذ ما بعد ثورة 14 تموز 1958، حيث ينتقم الأقوى من الأضعف في لحظة معينة، ليعود الأضعف إلى الانتقام والثأر حين يصبح أقوى، وهكذا دواليك، في ظل قانون غبي ومتخلف يرى أن لا حاجة للأقوى بمصالحة الآخر الأضعف منه، فيما لا تبقى فرصة أمامه لهذه المصالحة إذا بات ضعيفاً.

 وفي هذه المصالحة الشاملة التي لا تنحصر مسؤولية عقدها بالعراقيين وحدهم، بل بكل القوى العربية والإقليمية المعنية بحاضر العراق ومستقبله، لا بدّ من إجراءات تمهّد لها من قبل أصحاب التأثير في السلطة ومن هم خارجها، وأبرز الإجراءات دون شك الإفراج عن كل المعتقلين، وخصوصاً الامتناع عن القيام باعتقالات جديدة تصب الزيت على نار الاحتقان الأهلي الموقدة، وإفساح المجال لعودة كل المنفيين، كما تتوقف طبعاً عن خطاب الإقصاء والإلغاء والتخوين والاجتثاث الذي أثبتت تجارب العراق، وكل الشعوب، أنه الطريق الأقصر لتدمير الأوطان ورهن مستقبلها لأعدائها، وأن الجميع قادر على أن يعبّر عن كل قناعاته بأعلى درجات العقلانية والرصانة والاتزان دون أي تساهل في هذه القناعات أو تنازل.

 أما ثالث هذه المهام التي نأمل أن تستحق عناية الجميع، خصوصاً إن إنجازها مرتبط بإنجاز المهمتين الأولى والثانية، فهي في صون وحدة العراق وهويته العربية والإسلامية واحترام تعدديته السياسية وتنوعه الديني والعرقي، خصوصاً مع ملامح التفكك التي بدأت تلوح في الأفق عبر الدعوة إلى تحويل المحافظات إلى أقاليم، والعراق الموحد إلى فيدرالية أو كونفدرالية أو حتى كانتونات متحاربة، وهو المشروع الذي أطلّ على العراق مع الاحتلال، وتمهيداً له، والذي حرص الحاكم العرفي الأميركي بول بريمر أن يكرّسه في صيغ المحاصصة الطائفية البغيضة في "المجلس الانتقالي" الذي حكم من خلاله العراق وتحكّم به، والذي أراده أن يكون نموذجاً يطبقه في غير قطر.

 إن صون وحدة العراق ليست مجرد شعار يرفع، أو خطاب يتردد في محفل هنا أو هناك، بل هو برنامج عمل متكامل ينطلق من قيام الجميع بمراجعة جريئة وصادقة لتجاربهم الحديثة والقديمة، ومن إقرار الجميع، وفي مقدمهم القيمين على مقاليد السلطة، بمبدأ المشاركة والعدالة في إدارة شؤون البلاد، ومن نبذ الجميع، لا سيّما من بيدهم المسؤولية، للمنطق الطائفي والمذهبي والعرقي في التعامل مع الآخرين، ومن اقتناع الجميع، لا سيّما أهل الحلّ والربط، الإقلاع عن أي عمل أو إجراء أو ممارسة تؤجج نار الانقسام بين العراقيين.

 طبعاً هناك مهام كثيرة أخرى، عاجلة وآجلة، لكن أهمها، دون شك، يبقى العمل على استعادة دور العراق القيادي والريادي في محيطه العربي والإقليمي والدولي، خصوصاً عبر الالتزام بقضايا الأمة العادلة وفي طليعتها قضية فلسطين، وصون حقوق أبنائها، خصوصاً من يقيم منهم في العراق، وكرامتهم.

*معن بشور