لقد جربت الإنسانية عبر مختلف الحقب التاريخية نظام القطبية الواحدة وهيمنة القوة العسكرية الأقوى فدفعت خسائر لا تقدر في الأرواح ودمارات شتى، وإذا القوة إن تعاظمت ولم تغالبها قوة أخرى تملكتها عنجهية التسلط وأقدمت على الفتك بالآخرين مسكونة بوهم التأبيد مدفوعة بالخوف من وهن قادم ينزل بها إلى أسافل الوجود لتتلاشى كسالفاتها في الأزمنة الغابرة والحادثة على حد سواء.
كان العالم في ماض غير بعيد يفارق بين شرق وغرب، ولكل منهما جنوبه، ثم آلت الخارطة السياسية الكونية إلى كتلة واحدة عند انهيار الاتحاد السوفياتي وتقوض المنظومة الاشتراكية باسم العولمة وسيادة اللبيرالية الجديدة المتوحشة القائمة على أحكام الاستهلاك والمنافع العاجلة قبل الآجلة والاستغلال الفظيع لمختلف الفضاءات من برّية وبحرّية وجوّية حدّ استعباد الكائن والكيان بوسائل رمزيّة إثارية حيناً وأخرى حسيّة عنيفة دمويّة حيناً آخر، إن سعت بعض البلدان والشعوب والأمم، وهي قليلة إلى أن تحافظ على استقلالها وسيادة قرارها الوطني. إلا أن جدلية القوة المتعاظمة المزهوة بعنجهيتها تقضي أن ينتهي التطور بها إلى النقيض حتماً تبعاً للقوانين المتحكمة بالعالم طيلة العقود الثلاثة الأخيرة عن بدء تراجعها لما خسرته من نفوذ مادي ومعنوي بعد الجرائم التي اقترفتها في أفغانستان والعراق والخسائر البشرية والمادية الفادحة والتلاعب بمختلف القيم وتكديس الثروات الهائلة لصالح عدد محدود من الأفراد غير عابئة بفقر الملايين المدقع وجحافل العاطلين عن العمل وفشل جلّ السياسات الوطنية نتيجة الهيمنة الاقتصادية والسياسية والتدخل السافر في شؤون البلدان.
هذا المخاض العسير الذي نشأ عن الاستبداد الكوني والتضليل الإعلامي وسياسة الكيل بمكيالين ونهب ثروات الشعوب وممارسة الإرهاب تحت شعار مقاومته هو الذي أثمر مجموعة "بريكس" هذه النواة التي بدأت تظهر منذ ثلاثة أعوام، كجنين شهد اليوم ولادته ليجمع في ذاته كلاً من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا في انتظار أن تنضم إليه بلدان أخرى من القارات الخمس وبذلك يتشكل قطب ثانٍ للعالم سينهي حتماً زمن عنهجية القوة الأقوى .
إن ما يقارب نصف سكان العالم وثرواته حاضر في هذا الوليد الذي سينمو حتماً مادام هو الذي يمتلك الآن وسائل القوة الجديدة بقيم جديدة أيضاً تنتصر للخير على الشر وتحرص على تحرير الإنسانية من كوابيس الاستعمار والهيمنة والعدوان.
فكيف للعرب في المستقبل القريب وهم المنقسمون المشتتون أبداً أن يعيدوا تموقعهم في الخارطة السياسية الجديدة للعالم؟ سينقسمون حتماً كما عودونا على ذلك منذ عقود، قد ينضم بعضهم إلى هذا القطب الجديد انتصاراً للقيم النبيلة الماثلة في تراثهم الحي وبذلك قد يعيدون بعضاً من مجدهم القديم ولكن مَنْ مِنْ هؤلاء تحديداً؟
*مصطفى الكيلاني