وفي الطرف الآخر سوريا كانت تتابع أعمالها القتالية في كل مكان من الجغرافيا السورية دون أن تعود الى أي محاولة لتسعير الأزمة وإشعال فتيل نزاع مع "إسرائيل". اليوم يتضح أن سوريا وجدت الوقت المناسب للرد على الاعتداءات الإسرائيلية المتتالية، ولكن هذا الوقت في هذا الظرف وهذا الرد لم ولن يكون مناسباً للإسرائيلي لأنه أخطأ خطأً قاتلاً في تقديراته لما يمكن أن يترتب على هذه الاعتداءات في مثل هذه الظروف، خاصة في ظل مشاحنات دولية قاسية وصعبة بخصوص التوصل إلى حل سياسي في سوريا، نعم في هذا الزمان والظرف غير المناسب، في الوقت الذي يتوجه كل العالم إلى تطبيق الهدنة وتحقيقها، تقوم "إسرائيل" بخرق أحمق لهذه الجهود الدولية التي لا مخرج من نجاحها المتوقف على مدى عدة استدارات وتنازلات كانت مطلوبة وخاصة من جهة دول الاعتداء على سوريا والداعمة للإرهاب والإرهابيين.
ومن هنا يمكن بالفعل أن نفهم الصمت والصبر لدى القيادة السورية طوال الفترة الماضية رغم الاستفزازات التي مارستها "إسرائيل" ضد سوريا، وعملياً لو ردت سوريا في وقت سابق لكان خطأ تاريخياً لا يمكن إصلاحه بحكم الكثير من الاعتبارات المستجدة للوضع العام في البلاد وتجاهها من الخارج، لأنه لو ردت سوريا في مثل تلك الظروف لكانت حققت بالفعل ما أرادت أن تصل إليه "إسرائيل"، ولربما بالفعل كانت ذهبت سوريا إلى الطريق المرسوم لها من الدمار والانهيار بحكم التحالفات العدوانية الإقليمية والدولية التي كانت ستستخدم هذا الرد بأشكال مختلفة وبكل ما لديها من قوة قانونية وخارج القانون لتركيع سوريا.
اليوم تم إسقاط طائرتين إحداهما حربية مقاتلة وأخرى إستطلاعية، وقد تكون مجهزة بصواريخ، في منتصف الليل ولم يتم الإعلان أو الحديث عن هذه العملية حتى الصباح أي بعد حوالي 9 ساعات، ما الذي جرى خلال الساعات التسعة هذه، ومن تدخل؟ ومن تحدث مع من؟ من أجل لفلفة القضية وإخراج إسرائيل من هذ الورطة الغبية التي زجت نفسها فيها في وقت لم يكن أبداً في صالحها مهما كان هدف الغارة.
"إسرائيل" اعتقدت أنه سيكون مثل كل مرة، ولكن كما يقال في المثل العربي "مو كل مرة بتسلم الجرة". ولو أن الطائرات الإسرائيلية قامت بعملها وعادت من غير إسقاطها لاعتبر العالم كله أن هذا الخبر عادي ومر مثل كل مرة إنطلاقا من أن هذه الأحداث تكررت عدة مرات ولم ينجم عنها أي تصعيد يثير القلق أو يؤدي إلى نشوب حرب لا تستطيع أصلا سوريا الدخول فيها حسب اعتقادهم، وبالطبع الآراء كانت تختلف على الصعيد الداخلي السوري وخارجه حول هذا الامر، وكانت تطرح أسئلة كثيرة حول صمت الدولة السورية وأسبابه، وكانت الإجابات مختلفة ما بين أنها تخاف، وما بين أن هناك خطوط حمر رسمتها روسيا لإسرائيل، وما بين وبين والعد يطول.
نعم دخل الملف السوري في مرحلة جديدة قد تكون الأشد تعقيداً خلال الأيام القادمة، وقد تكون على العكس، ولا يستطيع أحد أن يخمن تقديرات القيادة السورية التي ذهبت في مثل هذه الظروف نحو الرد على الاستفزازات الإسرائيلية التي لم تنقطع منذ بدء الحرب الإرهابية على سوريا بعد أحداث عام 2011 التي جاءت في إطار ما يسمى بالربيع العربي.
نعم فعلتها "إسرائيل" وفعلتها سوريا، وفعل سورية يختلف عن فعل "إسرائيل"، رد سوريا جاء فعلاً مدروسا ومستشعرا به وعن قرب وبعد استراتيجي، ولم يأت ردة فعل كما أردا الكثيرون ممن يجهلون ما يعلمهم الأخرون في الطرف السوري، جاء هذا الاعتداء الإسرائيلي في وقت وصل فيه العالم تقريبا إلى توافق دولي إقليمي على حل القضية السورية بشكل سلمي وسياسي، وفي ظروف تعتبر غاية في الدقة والخطورة على سوريا وعلى المنطقة وحتى على العالم كله، في ظل الاختلافات والتجاذبات الإقليمية والدولية على طريقة التعامل مع المسألة السورية ضمن الظروف الحالية، وبالفعل نجحت سوريا في إدخال "إسرائيل" إلى ساحة التعري أمام العالم لتكشف جزء هام بل الأهم من خفايا الحرب على سوريا والمحجوبة عن الرأي العام العالمي، وزجت سوريا العالم في مأزق لا مخرج منه إلا التوافق أو الحرب.
الحديث يطول جداً هنا عن التكهنات بخصوص هذه التطورات وما يمكن أن يرتد عنها وعليها خلال الأيام القادمة، وتطرح نفسها هنا جملة من التساؤلات الصعبة جداً، ولكن يأتي على رأسها التساؤل الذي يقول: هل استطاعت سوريا بهذه الضربة القاضية، إن صح التعبير، أن تخرج "إسرائيل" من اللعبة السياسية في سوريا؟ وأن هذا الخطأ الإسرائيلي قد يعيد الجولان العربي السوري إلى واجهة الصراع السياسي وعلى أرض الميدان؟
بالمختصر سوريا أدخلت "إسرائيل" في مواجهة مع الدول التي قررت حل القضية السورية وأحرجتها أمامهم شر إحراج، وأدخلت "إسرائيل" عنوة في ساحات التعري التي لا يستطيع أحد أن يلملم شر البلية التي أوقعت "إسرائيل" نفسها فيه.
غلطة صغيرة من أي طرف، وتحديداً من "إسرائيل" التي تسعى بكل ما عندها لفلفة الأمر، قد تقود المنطقة إلى شعوة حرباء أو بالأصح حرب شعواء والأكثر من ذلك صدقوا أن سوريا ستخرج منتصرة منها في حال وقعت هذه الحرب، والأكثر من ذلك أيضا أن الأغنية المفضلة لدى الشعب السوري في الفترة القادمة في حال تحققت التكهنات ستكون تحت عنوان: أهلا بعودة الجولان.
* نواف إبراهيم ــ سبوتنيك