"جماجم" الجزائريين في فرنسا.. نسخة "داعشية" من القرن الـ19

الإثنين ١٠ أكتوبر ٢٠١٦ - ٠٨:٣١ بتوقيت غرينتش

"جنرالات فرنسا هم المعلمون الكبار في القتل والجرائم ضد الإنسانية وسبقوا "داعش" في قطع الرؤوس وحرق الأجساد".. أوصافٌ ساقها مؤرخون وباحثون جزائريون عقب الكشف عن آلاف الجماجم المحفوظة في أحد متاحف باريس لمقاومين جزائريين قُطعت رؤوسهم، بأوامر جنرالات فرنسيين، في مشهد يحاكي من وجهة نظرهم ما يفعله التنظيم الإرهابي "داعش" في عصرنا الحالي؛ بل "فاقه"، ليعكس إرهاباً يعود عمره إلى القرن الـ19.

تلك الجماجم أحيت "جرائم" لم تُدفن ارتكبها الاستعمار الفرنسي، وطالت مناطق بالجزائر هجر بعضها وأُبيد سكانها لتنقطع سلالة المقاومين؛ فلم يعد لهم أحفاد يتوارثون تاريخهم سوى باحثون من منطقة "ليشانة"، التي يقول مؤرخون إنها كانت مهد "ثورة الزعاطشة" الشعبية عام 1849.

قناة "فرنسا 24" بثت، قبل أيام من الآن، تقريراً كشفت فيه عن 18 ألف جمجمة محفوظة بمتحف "الإنسان" في باريس؛ منها 500 فقط جرى التعرف على هويات أصحابها، من ضمنهم 36 قائداً من المقاومة الجزائرية قُتلوا ثم قُطعت رؤوسهم من قبل قوات الاستعمار الفرنسي أواسط القرن الـ19.

"لم يقرأ في التاريخ أن قوماً قطعوا رؤوس آلاف البشر وخبأوها في متحف طيلة ما يزيد عن قرن ونصف إلا في فرنسا"

ولم يُكشف بداية سر هذه الجماجم سوى في مارس 2011، على يد علي فريد بالقاضي، الباحث الجزائري المقيم في فرنسا. وفي العام نفسه، صدرت عريضة تطالب باسترجاعها؛ غير أنها لم تلق رواجاً كبيراً. وفي ماي الماضي، تمكن إبراهيم سنوسي، الأستاذ الجزائري في جامعة "سيرجي بونتواز" الفرنسية، من جمع قرابة 30 ألف توقيع لاسترجاع بلاده لهذه الجماجم.

سعيد عبادو، رئيس "منظمة المجاهدين" الجزائرية (شبه حكومية تضم المقاومين الذين حاربوا فرنسا)، قال للأناضول إنه "لم يقرأ في التاريخ أن قوماً قطعوا رؤوس آلاف البشر وخبأوها في متحف طيلة ما يزيد عن قرن ونصف إلا في فرنسا".

اخفاء الجماجم جريمة لا تُغتفر وظلم لا مثيل له

عبادو وصف إخفاء فرنسا لهذه الجماجم بأنه "جريمة لا تُغتفر وظلم لا مثيل له"، مطالباً السلطات الفرنسية بإعادتها إلى الجزائر من أجل دفنها في أرضهم طبقاً لاتفاقية إيفيان (بين الجزائر وفرنسا والتي انتهت بالاستفتاء على تقرير المصير واستقلال الجزائر في 5 يوليوز 1962).

وأشار رئيس "منظمة المجاهدين" إلى أن "السلطات الجزائرية أرسلت وفدا إلى فرنسا في يناير 2016، ترأسه وزير المجاهدين الطيب زيتوني الذي قال إن هناك أملاً لاسترجاع الجماجم".

وتابع: "الفرنسيون يحملون فكراً استعمارياً، ولا نأمن جانبهم ونستعد لهم"، مستدركاً بالقول: "نعمل للتعامل مع فرنسا على أساس الند للند والمعاملة بالمثل، خاصة أن 138 ألف جزائري شاركوا في تحرير فرنسا (من الغزو الألماني) خلال الحربين العالميتين الأولى (1914/ 1918) والثانية (1939/ 1945)".

ولفت إلى "اعتراف فرنسا بذلك من خلال دعوتها الجزائر للمشاركة في الاحتفال بانتصار فرنسا على النازية (في 14 يوليوز 2014)؛ لأن الجزائريين شاركوا بدمائهم في الدفاع عن استقلال فرنسا".

"بلد كفرنسا تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان تضع رؤوسا قطعها المستعمر ببشاعة ووحشية وفعل لا يقترفه إلا الإرهاب في متاحف لتقدم للزوار"

وجندت الجزائر، خلال الحربين العالمية الأولى والثانية، عشرات الآلاف من الجزائريين ودفعت بهم في الصفوف الأمامية لجبهات القتال، حيث قتل منهم الآلاف في المعارك ضد الألمان.

وخلال الأسبوع الماضي، قالت الخارجية الفرنسية إن باريس والجزائر تجريان "حوارا وثيقًا"، وتعملان في إطار "مناخ من الثقة بشأن جميع القضايا ذات الصلة بالذاكرة؛ بينها إعادة نحو 50 جمجمة تحتفظ بها باريس في خزانات معدنية بالمتحف، بعيداً عن الزوار"، وهو ما كان قد صرح به الوزير زيتوني في يوليوز الماضي بأنه جرى تشكيل لجان مشتركة بين الطرفين بهدف "الإسراع في استرجاع جماجم هؤلاء المقاومين".

وأبدى الوزير استغرابه من "أن بلداً كفرنسا التي تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان تضع رؤوسا قطعها المستعمر ببشاعة ووحشية وفعل لا يقترفه إلا الإرهاب في متاحف لتقدم للزوار"، واصفاً ما اقترفته فرنسا "بعمل يبرز أقبح صورة عرفها تاريخ البشرية".

من جهته، رأى عمار سعداني، الأمين العام لحزب "جبهة التحرير الوطني" الحاكم في الجزائر، أن إخراج فرنسا قضية جماجم المقاومين الجزائريين إلى العلن يعد بمثابة "إهانة" للجزائريين.

وتساءل، في تصريح صحفي، "لماذا نلاقي إهانات جديدة من دولة (فرنسا) تقول إنها صديقة؟". وواصل تساؤلاته: "لماذا أخرجوا قضية جماجم مقاومين جزائريين موجودة في متحف بباريس إلى العلن؟". وتابع: "لقد أسموه متحف الإنسان، مع أنه كان يجب أن يسمى متحف الحيوان؛ لأن فيه إهانة لأشرف رجال الجزائر".

جراء فرنسا في الجزائر تفوق جرائم جرائم النازيين

من جانبه، قال الطيب الهواري، رئيس منظمة أبناء الشهداء (يتامى المقاومين الذين قتلتهم فرنسا)، إن "العالم سيكتشف مرة أخرى أن فرنسا التي خرجت بعد الحرب العالمية الثانية في 1945 لتندد بالجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها النازية هي ذاتها التي نفذت نفس الجرائم ضد الجزائريين وما زالت تنفذ مزيداً من الجرائم إلى يومنا عبر عدم الكشف عن الحقيقة".

ووصف "الهواري"، في تصريح للأناضول، إخفاء الجماجم بأنه "جريمة دنيئة وغير أخلاقية"، مشدداً على ضرورة استرجاعها مع الأرشيف الجزائري الذي استولت عليه فرنسا خلال الفترة الاستعمارية.

وحول محاولة الفرنسيين، خاصة من اليمين المتطرف، إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين؛ اعتبر أن "الفرنسيين يكشفون أمام التاريخ أن الاستعمار سبق "داعش" في قطع الرؤوس وحرق الأجساد"، مضيفاً: "الإنسانية والتاريخ يكشفان أن جرائم قطع الرؤوس ليست من تصرفات المسلمين، ولكنها منهم (الفرنسيين)، وتم إلصاقها بنا".

وفي هذا الصدد، أشار إلى أن "1600 عائلة جزائرية من قبيلة أولاد رياح، أبادها الفرنسيون بالدخان في القرن التاسع عشر، في جبال الظهرة، بولاية مستغانم (غرب).

ووقعت ما يُسميه الجزائريون "محرقة أولاد رياح" على يد العقيد الفرنسي "إيمابل بيليسيي"، في 19 و20 يونيو 1845، الذي حاصر نساء وأطفالاً ومدنيين في مغارة فروا إليها في جبال الظهرة، فأشعل العساكر الفرنسيون النار في مدخلها حتى لقي جميع من فيهم حتفهم اختناقا بالدخان، وأبيدت حينها قبيلة أولاد رياح بأكملها، حسب مؤرخين.

على الخط نفسه، سار المؤرخ الجزائري مصطفى نويصر، في وصفه للاستعمار الفرنسي لبلاده، قائلاً للأناضول: "لو نفتح سجل فرنسا في الجزائر لن نصاب بالدهشة ولكن بالصدمة"، لافتاً إلى أن "فرنسا لم تقم بقطع الرؤوس فقط بل حرقت الإنسان وقتلت الجزائريين بالدخان".

جنرالات فرنسا هم المعلمون الكبار في القتل والجرائم ضد الإنسانية

ونوّه نويصر بأن "بعض المؤرخين قارنوا ما قامت به فرنسا في الجزائر بجرائم أدولف هتلر (زعيم النازية في ألمانيا)، فوجدوا أن جرائم فرنسا تفوق جرائم النازية".

ومضى في قوله: "جنرالات فرنسا هم المعلمون الكبار في القتل والجرائم ضد الإنسانية"، داعياً إلى "إبراز مثل هذا النوع الوحشي من الجرائم للرأي العام العالمي (..) هذا سلاح في أيدينا لكي نقول للغرب أن جرائمه تفوق جرائم داعش، وبعض الأطراف في العالم الإسلامي".

ولفت إلى انتشار صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك"، تنشر صوراً لجرائم فرنسا في الجزائر مقابل صور لجرائم "داعش" في سوريا والعراق، معتبراً أن "هناك صحوة تجاه هذه الجرائم تقول للفرنسيين أنتم الذين صنعتم الإرهاب بوحشيتكم، هو ردة فعل عن الممارسات الوحشية للاحتلال".

"لأن هؤلاء المقاومين وغيرهم مثلوا رموزا لرفض المحتل، احتفط الفرنسيون برؤوسهم المقطوعة بطريقة مذلة"

وتعد مجزرة واحة الزعاطشة (بلدة ليشانة حاليا في ولاية بسكرة) أبرز الجرائم التي اُرتكبت إبان الاستعمار الفرنسي وتعود وقائعها إلى 26 نوفمبر 1849، عندما هاجم الجنرال "هيربيون" الواحة التي كانت معقل الشيخ "بوزيان" قائد ثورة الزعاطشة، بقوات بلغ إجمالها 8 آلاف عسكري. وبعد يومين من الحصار والقصف بالمدافع، تمكنت القوات الفرنسية من تدمير الواحة بالكامل، وقطع 10 آلاف نخلة، وإحصاء 800 جثة لشهداء جزائريين وعدد آخر غير معروف تحت الأنقاض. ومن بين الشهداء كان الشيخ "بوزيان".

أما الجيش الفرنسي، فقد خسر 165 جندياً وأصيب 790 آخرين، وفق الحصيلة التي أوردتها بعض المصادر.

مصادر جزائرية تحدثت عن "إبادة" سكان "الزعاطشة" عن بكرة أبيهم؛ لكن لا يوجد ما يؤكد أو ينفي بقاء أحفاد لسكان الواحة أو للشيخ بوزيان الذي قتل ابنه وعمره 16 سنة، وقطع رأسه هو الآخر.

الصحافي الجزائري حفيظ صواليلي قال، في دراسة نشرها بجريدة "الخبر" يوم 5 يوليوز 2015، إنه "بعد معركة الزعاطشة التي خاضها المقاومون من 16 يوليو إلى 26 نوفمبر 1849، على بعد 30 كلم جنوب غرب مدينة بسكرة (جنوب شرق)؛ قرّر العسكريون الفرنسيون قطع رؤوس القادة، منهم بوزيان والشريف موسى الدرقاوي، وعرضها في إحدى الثكنات ثم الأسواق ببسكرة لمدة ثلاثة أيام، لتكون عبرة لمن يتجرأ على مقاومة بلاده، حسب المحتل الفرنسي".

وتابع صواليلي: "ولأن هؤلاء المقاومين وغيرهم مثلوا رموزا لرفض المحتل، احتفط الفرنسيون برؤوسهم المقطوعة بطريقة مذلة".

وفي مايو الماضي، نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية نداء لمثقفين فرنسيين وقعوا عريضة للمطالبة بإعادة جماجم المقاومين الجزائريين إلى الجزائر، مشيرة في الموضوع الذي عنونته بـ"جماجم المقاومين الجزائريين لا مكان لها في متحف باريس" إلى مصادقة البرلمان الفرنسي على قانون يسمح بإعادة جماجم محاربي "الماوري" في 2010 الذين جرى الاحتفاظ بهم بفرنسا إلى موطنهم كاليدونيا الجديدة.

"الاستعمار الفرنسي انتهج منذ دخوله الجزائر سياسة تهجير واسعة النطاق وحتى إبادة قرى بأكملها استمرت إلى غاية خروجه عام 1962."

من جهته، قال ميشال غيرو، مدير المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس، في يونيو: "نحن مستعدون لدراسة طلب تسليم جماجم الجزائريين المحفوظة في متحفنا"، مشيرا إلى "عدم وجود أي عائق قانوني لتسليمها"، حسبما أفادت به وكالة الأنباء الجزائرية.

بن يوسف تلمساني، رئيس المجلس العلمي للمركز الجزائري للبحث في التاريخ (حكومي)، الذي طالب باستعادة تلك الجماجم، قال للأناضول إنه "من الصعب اليوم تحديد خارطة لأحقاد هؤلاء المقاومين الجزائريين الذين توجد جماجمهم في متحف باريس لسببين رئيسيين: السبب الأول يكمن في أن "هؤلاء المقاومين لم يكونوا بالضرورة أبناء المنطقة التي وقعت فيها ثورات شعبية ضد الاستعمار؛ ولكنهم تنقلوا من مناطق أخرى لمؤازرة إخوانهم ضد بطش المحتل وظلمه، وقُتلوا في معارك ومجازر لتنقطع أخبارهم عن أهلهم في مناطق أخرى". أما السبب الثاني فهو معروف لدى كافة الباحثين في التاريخ، ويتمثل في أن "الاستعمار الفرنسي انتهج منذ دخوله الجزائر سياسة تهجير واسعة النطاق وحتى إبادة قرى بأكملها ضد السكان استمرت إلى غاية خروجه عام 1962. وكان يكسر قبائل، وبنقل أفرادها إلى مناطق أخرى وحتى خارج البلاد؛ من أجل كسر شوكة أي مقاومة لوجوده"، وفق تعبير تلمساني.

محمد بلحي، باحث في التاريخ من منطقة بسكرة التي شهدت ثورة الزعاطشة في القرن التاسع عشر، قال إن "سكان المنطقة أبادتهم فرنسا عن آخرهم. ومن الصعب الحديث الآن عن سلالتهم وأحفادهم".

ندير بولقرون، مدير صحيفة "صوت الأحرار" التابعة لحزب جبهة التحرير الوطني (الحاكم) في الجزائر وينحدر من منطقة "ليشانة" التي يقول مؤرخون إنها كانت مهد ثورة الزعاطشة الشعبية عام 1849، أكد أن "هذه المنطقة شهدت ما يمكن أن نسميه إبادة جماعية كاملة أرضاً وبشراً ونخيلاً من قبل الفرنسيين".

وروى المتحدث للأناضول هذه المعركة والتي أنجز بشأنها بحوثاً عدة سابقاً: "كما هو معلوم تاريخياً، في 26 نوفمبر 1849 وعلى إثر الهجوم الكبير الذي قامت به قوات الاحتلال الفرنسي، حيث إن مصادر فرنسية تحدثت عن قيام 8 جنود فرنسيين بهذا الهجوم ... تم تجميع أهل القرية وقتل الشهيد بوزيان الذي استشهد على أرض المعركة شاهراً سيفه في مواجهة قوات الاحتلال وتوفي ابنه والشيخ درقاوي معه".

وأردف: "للدلالة على جرائم الاحتلال، قامت السلطات الفرنسية بقطع رؤوس الشهداء الثلاثة وتم التنكيل بهم ونُقلت إلى بسكرة (30 كلم من منطقة الزعاطشة) وتم تعليقها على مرأى من الملأ لثلاثة أيام في محاولة لترويع وقهر الجزائريين وكرسالة أن المقاومة قد انتهت".

وأشار بولقرون إلى وجود عريضة في إطار مسعى استعادة جماجم الجزائريين كلها من باريس، وقد جرى التوقيع عليها من لدن شخصيات تاريخية وأكاديمية بالتعاون مع جمعية مشعل الشهيد (غير حكومية)، وأنهم بصدد تفعيلها. كما أنهم قرروا بمناسبة ذكرى 26 نوفمبر المقبل والمصادفة لذكرى ثورة الزعاطشة تأسيس جمعية تهتم بجمع الوثائق حول تلك الثورة.

عبدالرزاق بن عبدالله ومصطفى دالع ــ هيسبرس

2-4