العالم . مقالات وتحليلات
لا يمكن بتاتا ان يكون القرار الاميركي اليوم بالانسحاب العسكري من شرق سوريا وكأنه انسحاب كامل من الاستراتيجية الاميركية في سوريا وفي الشرق الاوسط، او تخلٍّ عنها، فهذه الاستراتيجية هي ثابتة ولا تتغير بين "ليلة وضحاها" على مزاج رئيس مثل ترامب، تَعَّود المجتمع الاميركي والدولي على تناقضاته المثيرة للجدل.
لقد كانت سوريا وما تزال، نقطة ارتكاز اساسية في استراتيجية الاميركيين في الشرق الاوسط، حيث الاشتباك الايراني والحلفاء مع الاميركيين ومع "اسرائيل"، وحيث التصادم والاشتباك الخليجي مع ايران، وحيث نقطة الربط الرئيسة بين لبنان وحزب الله وايران عبر العراق وسوريا، وحيث الاستراتيجية التركية المتشعبة بين الاكراد والروس وايران والناتو، وحيث داعش وما تبقى من قدراته العسكرية والارهابية على الارض السورية.
انطلاقا من ثبات الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط من جهة، ومن الزامية الميدان السوري كجامع لاغلب النقاط والعناصر المكونة لهذه الاستراتيجية من جهة اخرى، يمكننا ان نجيب عن السؤال الاساس اليوم وهو، هل سيكون الانسحاب حقيقة ام انه سيكون عبارة عن مناورة اميركية، تشبه العديد من المناورات الاميركية وفي اكثر من ميدان؟
- في الموضوع التركي، لقد رأى الاميركيون مدى الاصرار التركي على انهاء اي نواة او امكانية كردية، حاضراً او مستقبلا، بتكوين سلطة مستقلة او كيان انفصالي مستقل في شرق وشمال شرق سوريا، وقد لمسوا (الاميركيون) ان انقرة ستذهب بعيدا في الحضن الروسي لو تابعت واشنطن في سياسة دعم الاكراد حتى النهاية، فكانت فكرة الانسحاب الاميركي بداية من المناطق الحدودية مع تركيا (وهذا عمليا بدأ يُنَفذ على الارض قبل ومع صدور قرار الرئيس ترامب بالانسحاب) مخرجا للتمدد التركي جنوبا، دون الاصطدام العسكري مع الوحدات الاميركية، وايضا مخرجا لتلافي الاحراج الاميركي تجاه الاكراد حول التخلي عنهم (كالعادة)، على اساس ان الانسحاب من سوريا هو قرار استراتيجي اوسع وابعد من موضوع حماية الاكراد ومواجهة الاتراك او عدم مواجهتم في سوريا.
- في الموضوع المتعلق بصراع ايران وحلفائها في سوريا ضد "اسرائيل"، عمليا، لم تكن الوحدات الاميركية المنتشرة في سوريا، والتي هي عبارة عن قواعد جوية بسيطة ومستشارين ومراقبين ووحدات خاصة، لم تكن تلعب اي دور في المواجهة الاسرائيلية ضد سوريا وايران وحزب الله، وصحيح ان وجودها كان رمزيا في تلك المواجهة، لكن القاذفات والصواريخ الاسرائيلية التي كانت تستهدف الداخل السوري، لم تكن تستعين بأي مساندة او دعم عسكري مباشر من الوحدات الاميركية الموجودة في سوريا، بل كانت هذه المساندة، تتم او قادرة ان تكون، من القواعد الاميركية في المتوسط او في الخليج (الفارسي) او في تركيا، وهذا الموضوع ما زال واردا وبقوة عند اي حاجة او طلب اسرائيلي.
- في الموضوع المتعلق بضرورة الوجود العسكري الاميركي على الارض شرق الفرات لمنع تمدد الجيش العربي السوري وحلفائه شرقا، ما زالت وحدات قوات سوريا الديمقراطية ووحدات اخرى معارضة للدولة السورية موجودة على الارض في تلك المنطقة، والتي ستبقى كما يبدو، من ضمن الاتفاق الاميركي ـ التركي، منتشرة في الوسط والجنوب من الشرق السوري، تستطيع، حتى بعد انسحاب الاميركيين، ان تستفيد من دعم جوي اميركي ساعة تشاء، والغطاء للاميركيين (الشرعي الدولي) لذلك ما زال موجودا، وهو التحالف الدولي لمحاربة داعش، والذي سيتدخل جويا حتما لمصلحة الاكراد وغيرهم، تحت شعار استهداف القوى التي تقاتل الوحدات التي تقاتل "داعش"، لانه عمليا ستبقى البؤرة الداعشية حيث هي الان، شرق النهر ما بين جنوب هجين وامتدادا حتى السوسة فالباغوز الفوقاني شمال شرق البوكمال.
من هنا، سيكون الانسحاب الاميركي من سوريا، وفي ابعد حدوده، عبارة عن سحب للمستشارين العسكريين، الذين يمكن ان يبقوا بلباس وحضور مدني دبلوماسي، مع اعادة انتشار وسحب للقواعد العسكرية الجوية، والتي يمكن الاستعاضة عنها وبشكل كامل وبنفس الفعالية واكثر، بالقواعد الاخرى الموجودة في العراق وفي الخليج (الفارسي) وفي المتوسط، مع الابقاء على منسوب الدعم اللوجستي للاكراد وسط وجنوب الشرق السوري كما كان، وعمليا، يكون الاتراك قد أمنوا حدودهم مع سوريا وابعدوا الاكراد المناوئين لهم جنوبا، مع إدخال العديد المناسب من مسلحي ادلب ومحيطها الى الشرق السوري، والذين يُشكّلون لهم اليوم مشكلة تتعلق بتأخير تنفيذ التزامهم باستانة وبسوتشي.
وهكذا يحافظ الاميركيون عبر هذه المناورة اليوم، على استراتيجيتهم في الشرق الاوسط انطلاقا من سوريا، في موضوع الصراع مع "اسرائيل" وفي موضوع منع ترابط محور المقاومة، وفي موضوع عرقلة الحل الروسي للازمة السورية، ويكون الاتراك قد ربحوا جولة مهمة في صراعهم مع الاكراد.
* شارل أبي نادر _ العهد