هل سيفقد الحراك الشعبي السوداني سلميته بعد مقتل عناصره بنيران المجلس العسكري؟

هل سيفقد الحراك الشعبي السوداني سلميته بعد مقتل عناصره بنيران المجلس العسكري؟
الثلاثاء ١٤ مايو ٢٠١٩ - ٠٦:٠٥ بتوقيت غرينتش

الحقيقة الدامغة التي يحاول الكثير من المتابعين للشأن السوداني تغافلها، جهلاً أو عمداً، أن هناك صراعاً محتدماً بين فريقين خارجيين على السودان ويتدخلان بقوة في الحراك الشعبي الذي انطلق منذ أربعة أشهر، الأول يضم كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، والثاني تتزعمه كل من تركيا ودولة قطر.

العالم - مقالات وتحلیلات

بينما يريد المعسكر الأول السعودي الإماراتي التهدئة بعد أن جاءت نتيجة الانقلاب لمصلحته بوصول الفريق عبد الفتاح البرهان وأنصاره إلى السلطة، المعروف بتأييده للتحالف العربي في حربه اليمنية، يعمل الطرف الثاني على استمرار الحراك الشعبي وتصعيده مدعوماً بأنصار جبهة الإنقاذ التي كان يتزعمها الرئيس عمر البشير، وحكمت البلاد لأكثر من ثلاثين عاماً.

مقتل أربعة محتجين وضابط مساء أمس، وتلويح الفريق البرهان، رئيس المجلس العسكري بالقبضة الحديدية، والتهديد بأنه لن يسمح بالفوضى، يعكس هذا الصراع الخارجي وأذرعه الداخلية بشكل واضح، ويهدد بمرحلة من الفوضى ربما تكون العنوان الرئيسي للمشهد السوداني فيما هو قادم من أيام.

الفريق البرهان أعلن منذ اليوم الأول وقوفه في الخندق السعودي الإماراتي المدعوم مصرياً وأميركياً، وشدد في بيانه الأول على بقاء أكثر من خمسة آلاف جندي سوداني في اليمن، وأرسل قواته إلى جزيرة سواكن في البحر الأحمر لإنهاء أي وجود عسكري أو مدني فيها، وإلغاء كل الاتفاقات التي وقعها الرئيس البشير مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان أثناء زيارته الأخيرة للخرطوم، وهذا ما يفسر المنحة المالية السريعة التي وصلت إلى السودان ومجلسه العسكري من هذا المحور.

يصعب علينا أن نجزم بالنتيجة التي سينتهي إليها هذا الصراع وانعكاساته الشعبية، خاصة داخل الحراك، ولكن مقتل أربعة محتجين وضابط، وبعد يومين من توصل المجلس العسكري الحاكم إلى اتفاق على هيكل السلطة، وسلطات الهيئات السيادية والتنفيذية والتشريعية، أثناء المرحلة الانتقالية، يعكس حالة من الانقسام ربما تتطور إلى ما هو أسوأ في المستقبل المنظور.

بعض المحتجين، خاصة أنصار جماعة قوى إعلان الحرية والتغيير المعارضة، يتهم أشخاصاً مناهضين للثورة على صلة بالنظام السابق بأنهم يحرضون على العنف ويريدون إجهاض الاتفاق، ويلتقون مع المجلس العسكري على الأرضية نفسها، بينما ينفي المحتجون الذين واصلوا اعتصاماتهم أمس هذه التهم، ويردون بالقول بأن المجلس العسكري يريد "سرقة" الثورة والاستيلاء على السلطة، ورفض تسليمها إلى حكومة مدنية، وإبقاء الوضع في السودان على حاله، مع تغيير فقط في وجوه القيادات العسكرية.

لجوء المجلس العسكري إلى إطلاق النار على المحتجين بالصورة التي شاهدناها، ربما يكون خطيئة كبرى ستؤدي إلى خروج الاحتجاجات عن طابعها السلمي، وإغراق البلاد في صدامات دموية، مما يزعزع استقرارها وأمنها، ويفاقم من انقساماتها وأزمتها الاقتصادية الطاحنة.

المجلس العسكري الحاكم في السودان حقق إنجازاً كبيراً عندما انحاز إلى الحراك الشعبي وأطاح بالرئيس عمر البشير وحكمه الفاسد، الذي أغرق البلاد في أزمات طاحنة على مدى ثلاثين عاماً من حكمه، وانتقل من فشل إلى آخر، ولكنه أي المجلس العسكري، ارتكب الكثير من الأخطاء عندما تلكأ في تسليم السلطة لحكومة مدنية تضم كفاءات سودانية عالية المستوى.

نختار كلماتنا بعناية فائقة لأننا نحب السودان، ونتمنى الخير والاستقرار لشعبه، ووضع حد لمعاناته الطويلة، ولا ننكر وقوفنا منذ اليوم الأول في خندق الحراك الشعبي السلمي، ولكننا نخشى من المستقبل، وتتعمق هذه الخشية عندما نرى مؤشرات على احتمال لجوء المجلس العسكري إلى استخدام القوة ضد المحتجين مما قد يؤدي إلى إدخال البلاد ليس في نفق مظلم وإنما دموي أيضاً، وهذا ما لا نتمناه ومعنا الغالبية الساحقة من الشعب السوداني، والعرب والمسلمين.

المجلس العسكري يجب أن يتحلى بالحكمة وضبط النفس، والبعد عن التهور بأشكاله كافة، وطمأنة الشعب بنواياه في ترك السلطة لمصلحة نظام حكم ديمقراطي مدني، والتحلي بالحياد ليس داخل السودان، وإنما في المحيط العربي أيضاً، لأن الانحياز إلى محور ضد الآخر في مرحلة الاستقطاب السياسي الحالي التي تسود المنطقة ربما يؤدي إلى نتائج كارثية.

السودان يقف حالياً أمام ثلاثة نماذج: الأول المصري، والثاني الليبي، والثالث الجزائري، ونأمل أن يكون الفوز للأخير، لأنه الأسلم والأكثر ملائمة، ونجاحه في إغلاق كل الأبواب أمام التدخلات الخارجية حتى الآن على الأقل، والبعد كلياً عن أي صدام بين الجيش والشعب رغم الاستفزازت الكثيرة.. والله أعلم.

* "رأي اليوم"