تحقيق دولي يكشف حقائق فشل مشروع نيوم وحدة الفساد فيه

تحقيق دولي يكشف حقائق فشل مشروع نيوم وحدة الفساد فيه
الخميس ٢٨ يوليو ٢٠٢٢ - ٠٧:٤٥ بتوقيت غرينتش

كشف تحقيق دولي سلسلة حقائق عن فشل مشروع نيوم الذي يروج ولي العهد محمد بن سلمان وحدة الفساد الحاصل في المشروع.

العالم - السعودية

وحسب موقع (سعودي ليكس)، أظهر تحقيق نشرته وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية أن مشروع نيوم الذي تم الإعلان عنه في عام 2017، يمر بتحديات كبيرة ويبدو أن تحويله من خيال علمي إلى واقع لا يزال أمراً صعباً.

وتناول التحقيق حجما هائلا من الفساد والإنفاق غير المحسوب بمليارات الدولارات على المشروع، اعتمادا على مقابلات مع أكثر من 25 شخصية من العاملين الحاليين والسابقين في المشروع.

وكشف هؤلاء عن معلومات صادمة عن حجم الهدر المالي الذي يتم في مشروع نيوم لا يعدو أن يكون مجرد خيال، بحسب ما يؤكد الكثيرون.

وخلص التحقيق إلى أنه “لم يزل هذا المشروع يمنى بالعديد من الانتكاسات، كثير منها ناجم عن صعوبة تنفيذ أفكار محمد بن سلمان الفخمة والمتغيرة باستمرار، وكذلك من صعوبة مواجهة الأمير، الذي لا يتردد عن سجن العديد من أفراد عائلته عندما يخبرونه بأنه لا يمكن تحقيق رغباته”.

وأكدت أن “مشوار نيوم المضطرب حتى الآن يشير إلى أن حلم محمد بن سلمان الحضري قد لا يتحقق أبداً على أرض الواقع. ونفس الشيء ينطبق على خططه الأوسع للتحول الاقتصادي”.

ويقول آندي ويرث، الأمريكي الذي يشغل منصب مدير في قطاع الضيافة والذي عمل في نيوم في عام 2020: “الذي تم إثباته هناك هو الغياب التام لأي ارتباط بالواقع، وبشكل موضوعي”.

واستعرض التحقيق العديد من قصص الفشل في المشروع، ومن بينها “مشروع شاطئ الفضة”، وحقل شمسي بتكلفة 200 مليار دولار لم يلبث أن ألغي مباشرة بعد الإعلان عنه بوقت قصير.

ولفتت إلى كيفية الإنفاق ببذخ على الموظفين الأجانب بينما يُحرم المواطنون السعوديون من هذه الأموال، حيث قالت إن “نيوم عرضت على بعض كبار الموظفين الأجانب رواتب معفية من الضرائب تتراوح بين 700 ألف و900 ألف دولار وهذا أكثر من عشرين ضعفاً من متوسط دخل الموظف السعودي، بالإضافة إلى تشكيلة واسعة من المنافع الأخرى”.

وفي ما يأتي النص الكامل للحلقة الأولى من تحقيق وكالة “بلومبيرغ” عن مشروع “نيوم” السعودي:

حلم محمد بن سلمان الذي يكلف 500 مليار دولار يغدو أكثر غرابة يوماً بعد يوم

“نيوم” مشروع ولي العهد السعودي العمراني الضخم، يفترض أن يشتمل على منتجع للتزلج، وخطوط سباحة للمسافرين، وكل شيء “أنيق”، لحسن طالع المستشارين.

في أحد أيام شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، حلت في صندوق الرسائل الواردة لحساب كريس هابلز غراي رسالة إلكترونية.

وغراي هذا مؤلف يصف نفسه بأنه فوضوي أنثوي وثائر، منسجم مع المحيط الذي يعيش فيه في سانتا كروز في ولاية كاليفورنيا.

كتاباته تتعلق حصرياً بالهندسة الوراثية والصعود الحتمي لما يسمى السايبورغز، أي الكائنات المكونة من أجزاء بشرية وآلية، وتراه من حين لآخر مشاركاً في الاحتجاجات التي تنظم لنصرة بعض القضايا مثل “حياة السود تهم”.

رغم أن غراي تولى عبر ما مضى من سنين بعض المهام الاستشارية، إلا أنه لم يتلق من قبل مثل هذا العرض. كانت الصدمة الأولى هي المبلغ المعروض عليه، والذي فاق كل ما جناه من إيرادات من كتبه جميعاً باستثناء واحد منها فقط.

أما الصدمة الثانية فكانت المهمة التي طلبت منه، ألا وهي البحث في جماليات الأعمال الإبداعية لأفلام الخيالات العلمية مثل “بليد رانر”.

لكن المفاجأة الأكبر هي أن الزبون الذي سيتعامل معه هو محمد بن سلمان، ولي عهد السعودية البالغ من العمر ستة وثلاثين عاماً.

كان محمد بن سلمان (مبس، كما يعرف في الخارج)، في المراحل الأولى من واحد من أضخم وأصعب المشاريع الإنشائية في التاريخ، والذي يراد من خلاله تحويل مساحات واسعة من الصحراء بحجم بلجيكا إلى منطقة أو مدينة تقنيات عالية تسمى نيوم. يريد محمد بن سلمان من نيوم، التي خصص لها ميزانية مبدئية تبلغ 500 مليار دولار، أن تكون تحفة تحدث تحولاً في الاقتصاد السعودي وتصبح مقراً لاختبار التقنيات التي ستفجر ثورة في الحياة اليومية.

وكما يفهم من المهمة التي أوكلت لغراي، فإن رؤية ولي العهد لا تشبه المدن العصرية إلا قليلاً. بدافع من الفضول، قبل غراي بالعرض الذي قدم له، وعن ذلك يقول: “لو كنت صادقاً حول رؤيتي للعالم، فإنني لن أتردد في تكريس عملي في خدمة أي شخص”.

انضم غراي إلى الفريق الذي يعمل في مشروع بناء المدينة، وهو مشروع يبلغ من الطموح درجة يبدو معها خيالياً للغاية.

فعلى سبيل المثال، يشتمل فهرس داخلي لمدينة نيوم اطلعت عليه “بلومبيرغ بيزنيس ويك” على مصاعد تبدو كما لو كانت تطير في السماء، وعلى مطار فضائي حضري، وعلى مبان تتخذ شكل اللولب المزدوج، وأخرى على شكل أجنحة الصقر المنتشرة، وأخرى على شكل الزهرة المتفتحة.

والمكان الذي وقع عليه الاختيار في أقصى شمال غرب السعودية، والذي يمتد من ساحل البحر الأحمر الذي تلفحه الشمس إلى المرتفعات الجبلية كثيرة التضاريس، تتجاوز درجة الحرارة فيه أثناء الصيف 100 درجة فهرانتية (حوالي 40 مئوية)، ويكاد يخلو تماماً من المياه العذبة.

ومع ذلك، وطبقاً لما يقوله محمد بن سلمان ومستشاروه، فسوف يصبح هذا المكان موطناً لملايين البشر الذين سيعيشون في تناغم مع البيئة، إذ يعتمدون على محطات تحلية المياه وعلى شبكات الكهرباء المولدة بشكل كامل من الطاقة المتجددة.

وسوف يستفيد هؤلاء من بنية تحتية حديثة ومن إجراءات تنظيمية صممت لرعاية الأفكار الجديدة – طالما أن هذه الأفكار لا تتحدى سلطة محمد بن سلمان. وقد تتوفر في هذا المكان الخمور.

تبدو نيوم واحدة من أولى أولويات ولي العهد، ولذلك فقد كرست الدولة السعودية موارد ضخمة للترويج لها كحقيقة واقعة.

إلا أنه بعد مرور خمسة أعوام على بدء المشروع، لم تزل مهمة إخراج نيوم من عالم الخيال العلمي إلى الواقع أمراً تعوقه التحديات الكبيرة، حتى بالنسبة لحاكم مطلق يملك التحكم بصندوق ثروة سيادي تبلغ قيمته 620 مليار دولار.

وطبقاً لما يقوله أكثر من 25 من العاملين الحاليين والسابقين في المشروع فإنه تم إجراء مقابلات معهم لصالح هذا التقرير، وبناء كذلك على 2700 صفحة من الوثائق الداخلية، لم يزل هذا المشروع يمنى بالعديد من الانتكاسات، كثير منها ناجم عن صعوبة تنفيذ أفكار محمد بن سلمان الفخمة والمتغيرة باستمرار، وكذلك من صعوبة مواجهة الأمير، الذي لم يتردد عن سجن العديد من أفراد عائلته، وإخباره بأنه لا يمكن تحقيق رغباته.

لم يكن من السهل إخلاء موقع مدينة نيوم من سكان المنطقة الأصليين، الذين عاشوا هناك لأجيال متعاقبة، وإعادة توطينهم في أماكن أخرى، بل نجم عن ذلك في بعض الأحيان نشوب معارك مسلحة.

كما أنه استقال من العمل عشرات الموظفين، الذين لم يتحملوا بيئة العمل المسمومة وثقافة الإنفاق الجامح مقابل نتائج محدودة جداً.

في هذه الأثناء، غدت نيوم ما يشبه ضمانة بالتوظيف الدائم للمهندسين والخبراء الدوليين بل وحتى بالنسبة لمصممي الإنتاج في هوليوود، الذين جاءوا لاقتناص نصيب من الثراء النفطي السعودي مقابل عمل يرتاب البعض بقوة بأنه لن يستخدم على الإطلاق.

قليلون هم من لديهم الاستعداد للحديث صراحة، وجل الناس يمنعهم من الحديث توقيعهم على عقود تمنعهم من البوح أو يمنعهم الخوف من العقاب. ولقد تعرض موظف سابق واحد على الأقل للسجن في السعودية بسبب انتقاده للمشروع (وتم إطلاق سراحه فيما بعد).

ومع ذلك فإن من غير الإنصاف اعتبار مشروع نيوم بأسره مجرد طيش يمارسه حاكم مستبد. فثمة أجزاء من الخطة، مثل المرفق الذي تصل تكلفته إلى 5 مليارات دولار والمخصص لإنتاج الهيدروجين لاستخدام العربات ذات الوقود الخلوي وغير ذلك من الاستخدامات، متجذرة في الوقائع الاقتصادية الحالية، كما أن بناء مركز عالمي من الصفر تقريباً ليس بدون سابقة في المنطقة.

فحتى قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً، كانت معظم أراضي دبي رمالاً خالية. ومنذ أن أصبح الحاكم الفعلي للسعودية في عام 2017، أثبت محمد بن سلمان مهارة في فرض التغيير الدراماتيكي، فقد تخلى عن كم هائل من القيود الدينية التي كانت تفرض نفسها على كل جانب من جوانب الحياة اليومية.

ونتيجة لذلك تتدفق النساء على القوة العاملة، وبات بإمكان المراهقين الرقص في مهرجانات موسيقية سرعان ما تباع جميع تذاكرها، وهذه أمور لم يكن متصوراً وجودها من قبل.

ومع ذلك فإن مشوار نيوم المضطرب حتى الآن يشير إلى أن حلم محمد بن سلمان الحضري قد لا يتحقق أبداً على أرض الواقع. ونفس الشيء ينطبق على خططه الأوسع للتحول الاقتصادي.

طبقاً لرؤية ولي العهد، من المفروض أن تتحول السعودية مباشرة إلى مركز للإبداع والعمل الحر، خالصة من الفساد والتطرف الديني وكل ما طالما اعترض طريقها نحو التقدم.

أما نقاده فيرون أن هذا المستقبل الموعود ما هو سوى قشرة، أو طبقة من البريق التكنولوجي للتغطية على جوهر من القهر ومن النهب الحكومي، والأهم من ذلك، من الحكم الفردي المطلق.

تعليقاً على المشروع، يقول آندي ويرث، الأمريكي الذي يشغل منصب مدير في قطاع الضيافة والذي عمل في نيوم في عام 2020: “الذي تم إثباته هناك هو الغياب التام لأي ارتباط بالواقع، وبشكل موضوعي”.

وكان محمد بن سلمان قد تحدث عن مشروع نيوم للمرة الأولى في انطلاقة مبادرة مستقبل الاستثمار، المؤتمر المبهرج الذي عقد في عام 2017 في فندق ريتز كارلتون الرياض – وهو نفس المكان الذي تحول بعد أيام معدودة إلى سجن خمسة نجوم لرجال الأعمال الذين اتهمتهم حكومته بالفساد.

كل شيء حول نيوم، والتي هي مفردة ممتزجة تجمع بين كلمة نيو اليونانية، وتعني جديد، والحرف الأول من كلمة “مستقبل” باللغة العربية، سيكون متطوراً وحديثاً.

ولذا أعلن محمد بن سلمان من على المنصة أن الفرق الذي يميز نيوم عن غيرها من المدن العادية يعادل الهوة التي تفصل بين هاتف نوكيا القديم والهاتف الذكي الأنيق.

في نفس ذلك اليوم، أجرى موقع بلومبيرغ مقابلة مع محمد بن سلمان بين فيها أن أهم إبداعات نيوم يتمثل في إطارها القانوني، وقال إنه في مكان مثل نيويورك ثمة حاجة غير مريحة لقوانين تخدم المواطنين كما تخدم القطاع الخاص.

وقال: “أما في نيوم، فلا يوجد أحد هناك”، مسقطاً بذلك من الحساب عشرات الآلاف من السعوديين الذين يعيشون في المنطقة. ونتيجة لذلك، فإنه يمكن أن تكون التنظيمات منبثقة عن رغبات المستثمرين دون سواهم.

وأضاف محمد بن سلمان: “تصور لو أنك حاكم نيويورك، ولكن بدون أي طلبات من قبل الجمهور. فكم سيكون بإمكانك توفيره للشركات وللقطاع الخاص؟”.

لا ريب في أن فكرة تسخير المنظومة السياسية السلطوية لصالح رأس المال الدولي تأخذ بألباب طبقة دافوس.

ولعل هذا ما يفسر أن ستيف شوارزمان، رئيس مؤسسة بلاكستون، وماياسوشي سون، رئيس مجموعة سوفت بانك، كانا من بين كبار أصحاب الأموال على مستوى العالم الذين رحبوا بالمشروع وأقروه، وتم تعيين كلاوس كلاينفيلد، المدير التنفيذي السابق لمؤسسة ألكووا، رئيساً له.

وحظي المشروع باهتمام المهندسين المعماريين والمخططين، الذين رأوا فيه فرصة نادرة لتشكيل مدينة من الصفر – حتى رغم تساؤل البعض عما إذا كان من الأفضل إنفاق المال لتحسين أوضاع المدن السعودية القائمة.

تبدو نيوم مثل “محدد الاتجاه من حيث أنماط التفكير الجديدة حول الحركة والطاقة”، كما يقول جون روسانت، رئيس مؤسسة نيوسيتيز، وهي مؤسسة غير ربحية تركز على قضايا العمران، والذي انضم إلى مجلس نيوم الاستشاري.

ويتيح نموذج نيوم المجال أمام الأفكار الخيالية، وإن كان بعض الموظفين يرون في المشروع نوعاً من الأعمال الحضرية الكريهة، بما يتيحه من فرصة نادرة لاختبار المفاهيم المستقبلية حتى وإن كان من المرجح أنها ستفشل.

على الرغم من أن نيوم تقع في منطقة لم يزرها سوى القليل من السعوديين، أوضح محمد بن سلمان أنه يتوقع أن تصبح مركزاً ينبض بالحياة على مستوى الوطن.

خلال بضعة شهور من إعلان ريتز كارلتون، بينت صور ملتقطة بالأقمار الصناعية سلسلة من المباني الضخمة التي كانت تحت الإنشاء تحيط بها مساحات واسعة من الأراضي الخضراء التي تبرز صارخة مقارنة بما يحيط بها من صحراء. كانت تلك صور قصر جديد يعود لولي العهد، حيث صار بعد ذلك بوقت قصير يقضي جل وقته.

بعد أقل من عام على إعلان محمد بن سلمان عن نواياه حول نيوم، مشى جمال خاشقجي، الذي كان أحد كتاب الأعمدة في الواشنطن بوست، إلى داخل قنصلية السعودية في إسطنبول ولم يخرج منها. وخلص تقرير استخباراتي أمريكي إلى أن من المحتمل أن يكون محمد بن سلمان هو من أمر بقتل الكاتب الذي كان ينتقد الحكومة.

إلا أن ولي العهد نفى أن يكون له أي صلة بالجريمة. ولكن موجة السخط التي تبعت ذلك خربت الأجواء أمام الاستثمارات الأجنبية داخل السعودية، وقطع كثير من رجال الأعمال علاقاتهم مع المملكة – وكذلك مع مشروع نيوم.

نجم عن ذلك أيضاً انسحاب عدد من الشخصيات العالمية من مجلس نيوم الاستشاري، ومنهم المهندس المعماري البريطاني نورمان فوستر، والرئيس السابق لمؤسسة واي كومبيناتور سام ألتمان ووزير الطاقة الأمريكي السابق إرنيست مونيز.

إلا أن محمد بن سلمان لم يؤثر فيه شيء من ذلك، وفي اللقاء الثاني لمبادرة مستقبل الاستثمار، الذي عقد بعد ثلاثة أسابيع من مقتل خاشقجي، استضاف محمد بن سلمان من تبقى من أعضاء المجلس الاستشاري في لقاء داخل قصره في ساعة متأخرة من الليل.

وطبقاً لما يقوله روسانت، الذي كان حاضراً في اللقاء، وصف محمد بن سلمان موت خاشقجي بأنه “مأساة” ما كان ينبغي أن تقع، كما وجه رسالة واضحة مفادها أن نيوم سوف تمضي قدماً بغض النظر عن كل شيء.

ولكنه سيكون، وبشكل متزايد، مشروعاً بقيادة سعودية. قضى كلاينفيلد أقل من عام في منصبه كرئيس تنفيذي للمشروع، وتم استبداله قبل بضعة شهور من جريمة قتل جمال خاشقجي.

جاء سلفه نظمي النصر من أرامكو السعودية، شركة النفط المملوكة للدولة. اشتهر النصر في أرامكو، رغم أنه خريج الهندسة الكيماوية، بتنفيذه للخطط المعقدة. كما تعلم كيف يتعامل مع مطالب وحساسيات حكام المملكة وكيف يتفهم أولويات الرجل الذي يجلس على رأس الهرم. يقول النصر عن ذلك: “صاحب السمو الملكي معنا يومياً، ولست في ذلك مبالغاً”.

كان أول مشروع تطويري ضمن نيوم مقرراً في شارما، وهي بلدة متواضعة تتكون من محلات لتصليح السيارات ومجموعة من المنازل الخرسانية المنتشرة على سواحل خليج ساكن.

وكان الهدف هو إقامة مجتمع يستلهم الريفيرا الفرنسية، يتكون ابتداء مما يقرب من خمسين ألف نسمة.

وللتخطيط له لجأ مدراء نيوم إلى مصدر غير عادي، بحسب ما ورد في وثائق داخلية وطبقاً لما يقوله موظفان سابقان، ألا وهو مؤسسة لوكا ديني للتصميم والهندسة المعمارية، وهي مؤسسة إيطالية مختصة في بناء اليخوت الفخمة.

انهمك مصممو لوكا ديني في إعداد تصاميمهم وإعادة العمل فيها المرة تلو الأخرى بناء على ما كان يردهم من ردود وتوجيهات من قبل لجنة يترأسها محمد بن سلمان. وكانت النتيجة تصوراً يطلق عليه “شاطئ الفضة”. لاحظ المخططون أنه بدلاً من الاكتفاء بالرمل، سوف يحاط شاطئ البحر بالرخام المجروش الذي يتلألأ في الشمس كالفضة.

ونظراً لارتباطهم بمواعيد مقيدة تحدد تاريخ البدء في الإنشاء، فقد عمل موظفو نيوم ومستشاروهم ساعات إضافية على مدى أسابيع لتحسين التصميم، الذي اشتمل أيضاً على ناد لليخوت، وحلبة سباق سيارات كهربائية وأكثر من 400 فيلا، بعضها يصل حجمها إلى ما يقرب من 100 ألف قدم مربع.

ثم في الربع الأول من عام 2019، تم فجأة وضع المشروع على الرف، كما يقول العديد من الموظفين السابقين. يذكر آثنان منهم أنه قيل لهم بأن ذلك التصور، وحتى بما يشتمل عليه من خط ساحل متلألئ، لم يكن إبداعياً بما يكفي من وجهة نظر قيادة نيوم.

من الممكن لتطوير المشاريع العقارية أن يشتمل على كم كبير من التجربة والخطأ، وكثير من التصاميم لا ترى النور إطلاقاً.

ولكن بالنسبة للموظفين، كان شطب “شاطئ الفضة” جزءاً من نمط من العمل بشراسة على خطط طموحة ومكلفة جداً ما تلبث أن يتم التخلي عنها – مثل واحدة من المبادرات المبكرة في نيوم، والتي كانت عبارة عن حقل شمسي بتكلفة 200 مليار دولار لم يلبث أن ألغي مباشرة بعد الإعلان عنه بوقت قصير.

يقول أحد المدراء السابقين ممن عملوا في مشروع “شاطئ الفضة”: “لو أردت أن أصف المحصلة النهائية لجميع ما قمت به من أعمال خلال تلك الحقبة لقلت إنها مقترحات وعروض كان ينتهي بها المطاف في سلة المهملات في الأسبوع التالي. في كل حياتي، كانت تلك أقل الفترات إنتاجاً من حيث القيام بعمل حقيقي وأكثرها إنتاجاً من حيث كمية ما جنيته من مال”.

وبالفعل، يمكن للعمل أن يكون مربحاً لدرجة فوق التصور. فقد عرضت نيوم على بعض كبار الموظفين الأجانب رواتب معفية من الضرائب تتراوح ما بين 700 ألف و 900 ألف دولار – أكثر من عشرين ضعفاً من متوسط دخل الموظف السعودي – بالإضافة إلى تشكيلة واسعة من المنافع الأخرى.

بمثل هذه الرواتب والحوافز لم يجد المشروع أدنى صعوبة في جذب الموظفين الأجانب، وخاصة بعد أن هدأت الزوبعة التي كانت قد ثارت في بداية الأمر بسبب جريمة قتل جمال خاشقجي.

معظم الموظفين كان يُطلب منهم السكن في مقر المشروع، حيث أنشأت نيوم سكناً مؤقتاً – عبارة عن شقق مريحة، وإن كانت بسيطة، في الصحراء، مع جيش من الأيدي العاملة المهاجرة للقيام بخدمات إعداد الطعام والتنظيف وغسيل الملابس.

كان السكن على مسافة بعيدة غير محبذ أثناء الجائحة، فأجرت الحكومة طائرات للقيام برحلات خاصة لجلب العاملين في نيوم جواً من لندن إلى السعودية.

ومع وصول المزيد منهم، بدأ الموظفون الأجانب يصفون تجاربهم من خلال نكتة تقول: عندما تبدأ في نيوم، تأتي معك بجردلين.

أما الأول فهو لجمع كل الذهب الذي ستراكمه، ونظراً لأن كثيراً من تكاليف المعيشة يتم التكفل بها، فسرعان ما يزداد ثقل الجردل، وأما الجردل الثاني فهو لجمع كل القرف الذي ينالك. وعندما يمتلئ الجردل الثاني، تحمل جردل الذهب وتغادر. وفي العادة لا يستغرق ذلك زمناً طويلاً، حيث أن كثيراً ممن تستأجرهم نيوم للعمل فيها يغادرون بعد أقل من عام.

يقول الموظفون السابقون إن أهم مصادر التظلم هو نظمي النصر الذي يصفونه بأنه صاحب مزاج بركاني. يذكر العديدون بأنهم رأوه يوبخ من دونَه من الموظفين على الملأ، وفي بعض الأوقات يصدر بحقهم تهديدات لم يسبق لهم أن سمعوا مثلها في حياتهم المهنية من قبل.

في واحدة من تلك اللحظات الصعبة بالذات، وبعد أن أقدمت شركتان متخصصتان في الرياضة الإلكترونية على إلغاء شراكات مع نيوم بسبب مخاوف تتعلق بأوضاع حقوق الإنسان، قال النصر إنه سيخرج بندقية ويبدأ بإطلاق النار إذا لم يتم إخباره عمن يتحمل المسؤولية عن ذلك، وذلك طبقاً لما ذكره شخصان شهدا الموقف.

إلا أن النصر يكذب تلك الشهادات ويقول: “لا يملك كل واحد تحمل ضغط المتطلبات اليومية، وهناك من الناس من يغادر لأن الوضع هنا يتطلب منهم أكثر مما كان مطلوباً منهم في أي مجال عملوا فيه من قبل”.

ومن بين السيئات التي كان من الأرجح أن تثور لها ثائرة النصر، كما يقول موظفون سابقون، هو الإخفاق في إنفاق ما يكفي من المال.

وصف ثلاثة منهم كيف كان النصر يحتفظ بمخطط لديه يتبين منه مَن مِن رؤساء الدوائر هو الذي تنفق دائرته أقل من الميزانيات المصرح لها به، وهو ما كان الموظفون السابقون يشيرون إليه مازحين بعبارة “حائط العار”.

كانت القيود محدودة على توظيف المستشارين من الخارج – عمل مكتب ماكنزي وشركاه وكذلك مجموعة بوسطن الاستشارية كلاهما بشكل موسع على نيوم – وبعض الخطط تم تطويرها بسرعة هائلة لدرجة أن المؤسسات التي جندت وكلفت بتقييمها قدمت تقديرات للتكاليف بهامش يصل إلى 40 بالمائة.

يقول أحد المدراء الكبار السابقين إنه كان في غاية الانزعاج بسبب ما رأى أنه هدر للأموال مما أرقه وأبقاه ساهراً طوال الليل. ورداً على ذلك، قال النصر “إننا لا نقوم بالأمور بهذه الطريقة” وإن “نيوم تقيم الموظفين بناء على ما ينجزونه من تقدم في تنفيذ الخطط، وليس بناء على كمية المبالغ التي ينفقونها”.