سوريا .. إفرازات ما بعد الحرب المؤلمة

سوريا .. إفرازات ما بعد الحرب المؤلمة
السبت ١٠ سبتمبر ٢٠٢٢ - ١٢:١١ بتوقيت غرينتش

إفرازات الحروب دائما ما تكون أسوء من الحروب نفسها، هذا ما تعلمناه من تجارب الماضي خصوصا في منطقتنا العربية سواء في لبنان أو اليمن إبان الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب (1994) أو السودان أثناء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب أو مع أقليم دارفور، ومن هذه الافرازات إهمال التعليم وتدمير القطاع الصحي ونسيان البنية التحتية والانفلات الأمني وكثرة العشوائيات السكنية والمحسوبية واتساع سلطة السلاح المنفلت وغيرها من الأمور التي تدمي القلب وتدمر المجتمع.

العالم - مقالات وتحليلات

ولكن إذا ما نظرنا خارج الدول العربية لشاهدنا العكس، مثل فيتنام التي خرجت من حرب أهلية مدمرة وأصبحت الآن في مصاف الدول المهمة والرئيسية على مستوى التصنيع والتصدير في العالم وفيتنام هي من الدول القليلة التي حاربت الولايات المتحدة وهزمتها وفرضت عليها واشنطن عقوبات قاسية مؤلمة أدت في فترة من الفترات إلى حدوث مجاعة في البلاد، ولكن خلال فترة وجيزة من التخطيط السليم خرجت من دوامة العقوبات إلى يابسة الإستقرار والبناء والتطوير، أما في أفريقيا فلنا في أثيوبيا مثال حي على النهوض والخروج من دوامة العنف والحرب الأهلية نحو الإستقرار والبناء بالرغم من أن البلاد إلى الأن لديها أزمات ونزاعات داخلية مع أقليم تغراي الا أنها لا تزال مستقرة وقوية بفضل استطاعتها استغلال مواردها بطريقة صحيحة وسليمة وسخرت موقعها الإستراتيجي لبناء البلاد وليس العكس، فهنا نطرح سؤلا لماذا العرب دائما متخلفون في الخروج من الحروب وإفرازاتها؟

سوريا نستطيع أن نقول إنها بدأت تشهد إستقرارا على مستوى 70 بالمئة من مساحة البلاد منذ بداية عام 2019، ولكن منذ ذلك الوقت ونحن نشهد إرتفاعا كبيرا في الجرائم والأزمات والجوع والمرض وسط عجز حكومي لا يستطيع أحد أن ينكره أو يتجاهله، ربما يأتي شخص ويقول أميركا تفرض حصارا قاسيا على سوريا وقانون قيصر دمر البلاد وأنهكها.. نعم هذا الطرح صحيح وقانون قيصر هدفه واضح منذ أن تم التحضير له عام 2014 ولكن ماذا فعل المسؤولون في سوريا لتفاديه والتحضير للوقوف ضده خصوصا أنه فرض بعدها بخمس سنوات أي في عام 2019؟

لايوجد مسؤول سوري يخرج للحديث أمام الإعلام حول أي أزمة إلّا ويعيد ويصرّح بعبارة "قانون قيصر والحصار الجائر على الشعب السوري" عبارة حفظها الجميع عن ظهر قلب ولكن هل يجب على الشعب أن يسكت ويموت بصمت؟ الدولة السورية بإمكانها التأقلم مع قانون قيصر والتكيف معه بل والتغلب عليه أيضًا. فالدولة التي تستطيع خلال ساعات ضبط سعر الصرف وتخفيضه لأكثر من النصف، تستطيع بسهولة أن تضبط أي شيء آخر سواء بالتلاعب بالأسعار او إخفاء المواد التموينية أو السوق السوداء، لأنه وللأسف هناك سوق مواز حيث الأسعار موازية والكميات لامحدودة من كل شيء، وبالتالي من يضبط سعر الصرف بساعات يستطيع فعل كل شيء. ومن الضروري أن تستغل الحكومة ثغرات قيصر وهي كثيرة بالمناسبة، أولها إستثناء بعض المناطق السورية غير المشمولة بالحظر مثل: مناطق مليشيات قسد، ولدى الدولة السورية فيها مناطق كثيرة تسيطر عليها بالاضافة إلى المفاوضات مع قسد حول ملف العدوان التركي على الأراضي السورية وهو ما يتيح لدمشق القضاء على هذا القانون عبر الإستعانة بها بطريقة أو بأخرى. بالإضافة إلى أن المناطق التي إستأجرتها روسيا في سوريا مثل: مرفأ طرطوس غير مشمول بالعقوبات وموسكو حليف لدمشق، والحكومة تستطيع أن تدخل من هذه الثغرة وتستورد البضائع باسم المناطق هذه. وهناك أمر آخر تستطيع الحكومة الإعتماد عليه ضد قيصر وهو التحالف مع الصين، حيث بكين تريد الدخول بشكل جدي إلى سوريا وتبحث عن الإستثمار فيها والوصول إلى البحر الأبيض المتوسط أيضًا، وبالتالي تستطيع تجاوز الحرب الإقتصادية عبر حليف إقتصادي آخر.

خلال شهران فقط شهدت سوريا أربعة أحداث أثرت بصورة مباشرة على المجتمع وكانت الدولة على علاقة بها بصورة مباشرة، أولها كانت جريمة قتل الطفلة جوى استانبولي، وما رافقها من أحداث مثل التقرير الطبي المشبوه الذي صدر في بادئ الأمر وقيل فيه إن الطفلة لم تتعرض للإغتصاب وإنها قتلت بواسطة ضربة على الرأس ولكن إعترافات القاتل أثبتت العكس حيث قال إنه إغتصبها وخنقها، وهذا الأمر تحديدا أحدث شرخا في المجتمع خصوصا قضية تصديق بيانات الدولة وتقاريرها، فمن المسؤول عن إحداث هذا الشرخ في المجتمع وإثارة البلبلة وجعل المواطن يشك في أي بيان أو تصريح يخرج من الدولة؟

الحدث الثاني كان قرار رفع أسعار المحروقات ثم جمركة الهواتف المحمولة، ما جعل المواطن السوري يتحسر على أيام الحرب لأن ما يحصل الآن مؤلم أكثر منها، كيف تريد من مواطن أن يعيش على مرتب لا يصل إلى 50 دولارا وتكلفة الحياة النصف طبيعية تبلغ شهريا 500 دولار؟ واللافت هنا ما صرحت به وزارة الأوقاف في رمضان الفائت حيث حددت كفارة إفطار الصائم وهي إطعام مسكين بمبلغ عشرة آلاف ليرة سورية، حيث إعتبرت أن تكلفة الوجبة المشبعة للشخص الواحد هي بهذا المبلغ، وإذا أجرينا عملية حسابية بسيطة وضربنا هذا المبلغ وهو 10 آلاف بـ30 يوما وهي عدد أيام الشهر يصبح المجموع 300 ألف ليرة وهذا المبلغ هو سعر وجبة طعام واحدة مشبعة لشخص واحد خلال الشهر، وإذا فرضنا أن عائلة مكونة من خمسة أشخاص تريد أن تأكل شهريا بمبلغ 300 ألف ليرة سيكون المجموع مليونا ونصف، وهذا ما يطرح سؤالاً كيف ستأكل عائلة راتب الشخص فيها لا يتجاوز الـ150 ألف ليرة فقط؟ وإذا فرضنا أن معظم أفرادها يعملون ورواتبهم مجتمعة تبلغ مليون ليرة، فهي بحاجة لنصف مليون إضافية من أجل الطعام فقط هذا بدون الحديث عن فواتير الكهرباء وأجرة المنزل والملابس والطبابة والتعليم وغيرها.

الحدث الثالث كان إنهيار مبنى سكني في أحد الأحياء الشرقية لمدينة حلب، وهذه الأحياء تعاني من إهمال وتهميش منذ أن تم تحريرها عام 2017، أينما تلفت فيها تشاهد العشوائيات والأبنية الآيلة للسقوط نتيجة تعرضها للحرب والقذائف، وبعد أن عاد الأهالي إليها لم يتم الأهتمام بها فكانت على هامش الحياة، فلم تقم المحافظة بتشكيل لجنة مؤلفة من مهدنسين إختصاصيين والعمل على فحص كل المباني المتصدعة ومنع الأهالي من العودة إليها قبل ترميمها بشكل يؤمن حياتهم وتأمين مساكن بديلة حتى يتم ترميم المتضررة، ولكن ما حدث هو العكس سمح للجميع بالعودة وتم غض النظر عن العشوائيات مقابل أموال دفعت من تحت الطاولة وهو ما جعل مبنى مخالفا من خمسة طوابق أن يسقط بعد تسعة أشهر فقط من تشييده، وبالتالي من المسؤول عن هذه الفاجعة؟ وأين دور هيئات المحافظة في تفادي هذه الكارثة إلا إذا كانت شريكا فيها بصورة أو بأخرى.

الحدث الأخير كان إنهيار الأخلاق وتمثل بقيام رجل بقتل أهل زوجته في طرطوس نتيجة خلاف بينهم ما يؤكد أن المجتمع يعيش على فوهة بركان قد ينفجر في أي لحظة وهذه الأحداث ما هي إلا جهاز إنذار من أجل الإنتباه قبل حدوث الكارثة التي إن وقعت لا قدر الله ستأكل الأخضر واليابس. وطرق العلاج كثيرة وأولها مكافحة الفساد حيث أنه قبل شهر واحد فقط تم فتح ملف فساد المحروقات في محافظة حلب وبمجرد مراجعة بسيطة لبعض الحسابات تم ضبط مبلغ مليارين و800 مليون ليرة سورية، وبالتالي ما هي المبالغ الأكبر التي ربما يتم إعادتها إلى خزينة الدولة وإلى جيوب الشعب السوري إذا تم فتح جميع الملفات في البلاد؟ ثم يجب إعادة بناء المجتمع بطريقة صحيحة خصوصا بعد ظهور بوادر الفساد الأخلاقي في البلاد بصورة أكبر مما كانت عليه في السابق، فمن الضروري أن يتم وضع جدول مناسب للتسريح العسكري لأنه من الصعب أن يتم بناء المجتمع والأب الذي هو عامود العائلة غائب عنها، والأم وحدها لا تستطيع التكفل بالعائلة خصوصا وأن معظم الأمهات عاملات وبالتالي من سيكون بالمنزل؟ من سيحمي العائلة ويقومها؟ التسريح العسكري من أهم نقاط الحل الأن.

قبل سنوات عديدة كشفت الإدارة الأميركية عن بعض سجلات المخابرات لديها وكان الملفت فيها هو العميل (XY) أو (فيرويل) هذا العميل بقيت شخصيته سرية حتى اليوم، وهذا العميل كان مسؤولًا كبيرًا في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة لم تطلب منه أي شيء رغم مركزه الكبير في الاتحاد، ولكنها طالبت بأمرٍ واحدٍ لاغير وهو أن يصل الأشخاص الجهلة وعديمي المسؤولية إلى مناصب عليا في الاتحاد وأن تكون بين أيديهم مفاصل القوى، ويقال أن هذا العميل هو من أوصل الرئيس السوفيتي الأخير ميخائيل غورباتشوف الذي فكك الاتحاد وأسقطه. أنا اليوم أرى كل مسؤول أو وزير سوري فاشل في الإدارة وليس لديه خطط للأزمات ومهتَرِئ واتّكالي ومهتزّ بأنّه العميل (XY) الذي زُرع في سوريا لتدميرها، بالتالي يجب على الحكومة القادمة أن تكون بدون هؤلاء حتّى تستطيع العمل بنجاح.

*ابراهيم شير - كاتب واعلامي

*المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب