الأزمة الأميركية: خلاف بسيط أم مسألة تاريخية؟

الأزمة الأميركية: خلاف بسيط أم مسألة تاريخية؟
الإثنين ١٤ أكتوبر ٢٠١٣ - ١٢:٢٠ بتوقيت غرينتش

تختلف وجهات التيارات الاقتصادية في نظرتها إلى الأزمة في أميركا، بعضها يرى أنها ستغيّر وجه التاريخ، والبعض بأنها خلاف داخلي بسيط بين جمهوريين وديموقراطيين. يؤكد المتشائمون أن الأرقام والعتبات غير المسبوقة تستلزم قرارات تاريخية.

 أما المتفائلون فيطمئنون لحجم الاقتصاد الأميركي وقدرته الخلاقة على إيجاد الحلول والاعتماد على الذات (لكونه من بين الدول الأقلّ انفتاحاً في العالم): يصدر أقل من 15 في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي ويستورد أكثر بقليل (مثل الياباني). بينما تصل النسبة إلى 30 في المئة في الصين وفرنسا وروسيا وأكثر من 50 في المئة في ألمانيا وغيرها من الدول المعتمدة على الخارج. وينفرد الاقتصاد الأميركي بطباعة عملة تسعير المواد الأولية والأكثر استعمالاً بالادخار ويتبعه الغرب بالسياسات الاقتصادية. من نصدّق؟ وهل من آفاق مختلفة لتنمية أكثر استدامة؟

دام انتعاش الغرب 30 سنة بعد الحرب العالمية الثانية، هيمن بها الفكر «الكنزي» وأعطى للدولة دوراً محورياً وركز على النمو الاقتصادي. بعدها زادت التنافسية وهبط مخزون الذهب الأميركي ففرض قرار منفرد بفك ارتباط الدولار بالذهب، وتم تعويم قسري لعملات باقي دول الغرب. وزادت الأزمات مع الصدمات البترولية وارتفاع التضخم والفائدة، فاضمحلّ دور الدولة بصعود الليبرالية الجديدة وموجات الخصخصة.

بعد انهيار النظام الشيوعي انخفضت حصة الدفاع في الموازنة الأميركية من 30 إلى 20% وتزايد الاهتمام برفاه شرائح أوسع. فزادت نفقات التأمين الصحي مع سنوات كلينتون، وإن كانت ثقافة الاستهلاك في الماضي مركزة على التسويق بالجذب عبر الدعاية والترويج، فقد شهدت نمواً أكبر بالتحفيز عبر ابتكار طرق إقراض ميسّرة بمعدلات فائدة متنوعة وغير مسبوقة (شاركت المصارف فيها شركات توزيع السلع والخدمات). وأدّى الانخفاض الملحوظ بمعدلات الفائدة إلى نمو متزايد في الاستثمارات المالية واضمحلال طرق الادخار التقليدية. وسمح التخفيض بإنقاص عبء الفوائد المترتبة على القطاع الخاص والعام. فنجم عن ذلك خلل في أكثر من مجال:


÷ استفادت الدول البازغة من عملاتها المقيمة بأقل من قيمتها فزادت صاراتها ووظفت فوائضها في الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة التي اعتمدت على سمعتها لتمويل عجز بنيوي متعاظم في شركاتها في مجال الانتاج (جنرال موتورز مثالاً) أو التمويل (مختلف المصارف) أو التأمين (إي آي جي)..
÷ بعد أن كان الإفلاس سابقاً سمة الدول النامية (شركات وحكومات)، نشهد منذ سنوات وللمرة الأولى مآزق حكومات غربية (ايسلندا وايرلندا واليونان..) ومؤسسات مالية واستثمارية عريقة فيها.
÷ أدّى تقليد النموذج الغربي لإهمال باقي الأبعاد الإنسانية فتأثر المناخ وزادت الهجرة والتوترات الاجتماعية.

÷ سمح التطور التقني بتركّز الوظائف في الخدمات، ولكن ثقافة الاستهلاك روّجت لنموذج موظف قطاع الخدمات على حساب الزراعة والصناعة، فتشوّه الريف بإقصاء أفراده، وتشوّهت المدينة بغياب التخطيط والتنفيذ السليمين، فضاعت الهوية.
÷ يسمح التنافس وتطوّر الإدارة بزيادة المكاسب العمالية التي لم تتحقق بمستواها الحالي، لولا الحرب الباردة، ونضال النقابات للوصول لبرامج تأمين صحي وتوظيف تزداد قوتها مع كل فورة اقتصادية (لأغراض سياسية). ويلحظ تزايد حصة الصحة من الموازنة الأميركية في برامج كل من كلينتون وأوباما. ما ضخم دور الدولة والعجز الحكومي والديون العامة.
÷ تبين أن التعديلات المتتالية على منظومات الضوابط (اتفاقيات بازل وأندية إدارة ديون الدول المتعثرة) لا تلغي الانتكاسات المتكررة منذ تعويم العملات (أميركا اللاتينية، النمور الآسيوية، فقاعة تكنولوجيا المعلومات، الرهن العقاري،..)..

حالياً يقارب دين الحكومة الفدرالية «فقط» 17،2 تريليون دولار (رقم لا يشمل ديون الولايات أو الديون المحلية أو الرعاية الاجتماعية أو الطبية). تميّزت سنوات بوش الأخيرة بعجز مزمن من بضع مئات من مليارات الدولارات. لكن أوباما حطّم كل الأرقام حيث لم ينخفض رقمه عن واحد تريليون دولار سنوياً، ما جعل الأعباء السنوية للأزمة الاقتصادية أكبر من التكاليف السنوية للحروب الأميركية خلال هذا القرن. ورغم سنوات من التمويل بالعجز الهائل لم ينتعش الاقتصاد بالمستوى المطلوب؛ فخرقت ضوابط الاستقرار المالي في الغرب الذي طالما أكد أمام العالم النامي أهمية كبح العجوزات واحترام سقوف الاقتراض.

في الحرب العالمية الثانية، خرقت الضوابط المصرفية لتمويل الحرب. وهو أمر مفهوم، إن كان مؤقتاً، وباعتبار أن الحروب تولّد ورشات كافية لتعويض النفقات والخلل. أما في فترات السلم فلا نفهم خرق ضوابط أكد الغرب على الدول النامية لاحترامها. وما يزيد الخطورة هو استنزاف القدرة على جذب عملات عالمية ترتكز أساساً على الأداء الاقتصادي لدولها.

في ظل صعوبات التمويل بمعدلات فائدة ضحلة (مهّدت لفخ سيولة غير مسبوق) وجد الاقتصاد الأميركي ضالته بالتيسير الكمي الذي اعتمدته اليابان في بداية القرن بشكل محدود (لكون الين لا يقارن بالدولار)، لكن الولايات المتحدة بالغت بزيادة الدين العام ما رفع الشك في القدرة على التسديد.

تسمح الفائدة الضحلة بخفض عبء الديون الهائلة. ولكن ارتفاع الفوائد إلى 6 في المئة سيجعل العبء السنوي للفوائد أكثر من تريليون دولار (أكثر من المبلغ المطلوب سنوياً لإنعاش اقتصاد أميركي مأزوم). فهل يستطيع الغرب الاستمرار بالتناغم لجذب المزيد من المدخرات بفوائد شحيحة؟
يرتبط جزء من الصراع الحالي في الكونغرس بهذه التساؤلات. ونعتقد أن الحوار المقبل سيكون في معظمه حول إعادة النظر في مفهوم القطاع العام عموماً وحجم الحكومة الفدرالية في السنوات المقبلة وعلاقة الولايات المتحدة في ما بينها. وسيكون صدى الحوار كبيراً في الغرب المرتبط بالاقتصاد الأميركي الذي مهما كانت قدرتها على الانغلاق سلعياً سيبقى منفذاً أساسياً لامتصاص السيولة العالمية الفائضة. بانتظار مصير الفقاعة الأكبر بتاريخ البشرية قد تسمح الحلول الترقيعية بتأجيل انفجارها لسنوات، ولكن مع كل تأخير تترتب تكاليف أكبر.


على التوازي نتساءل عما حضره العرب لمواجهة مخاطر تهدّد هويتهم وأرصدتهم.. وقدرتهم على إعادة صياغة مفهوم الدولة والقطاع العام وتحديد أوضح لصيرورتهم، وذلك عوضاً عن جدل حول شعارات ترفع ولا تقرأ مما يهدد المصير لعقود لا بل لقرون مقبلة.

*دريد درغام