كان ارينتش من المدافع الثقيلة في «حزب الرفاه» كما في «حزب الفضيلة»، ومواقفه كانت تتسم بالمحافظة الشديدة. لكن رفيق رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين اربكان فاجأ الجميع بعد حل «حزب الرفاه» وتأسيس «حزب الفضيلة» في العام 1998 بانحيازه إلى التيار التجديدي في الحزب الذي قاده حينها الرئيس التركي الحالي عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب اردوغان.
وشكل انضمام ارينتش إلى الحركة الجديدة مكسبا كبيرا لهذا التيار الذي ما لبث بعد حل «حزب الفضيلة» في العام 2001 أن أسس «حزب العدالة والتنمية»، فيما اتجه التيار التقليدي بزعامة رجائي قوتان وتحت وصاية اربكان إلى تأسيس «حزب السعادة».
وأعطى انضمام ارينتش ثقلاً للتيارات «الأصولية» في «العدالة والتنمية». وقد برز دور هذا التيار في الأول من آذار العام 2003 عندما صوت حوالي مئة نائب من «العدالة والتنمية» ضد المذكرة الحكومية الشهيرة لمشاركة الولايات المتحدة غزو العراق التي كان وراءها رئيس الوزراء في حينه عبد الله غول ورئيس «العدالة والتنمية» رجب طيب اردوغان. وقد سقطت المذكرة بفضل تصويت المعارضة من جهة و«جناح» ارينتش من جهة ثانية ضدها.
وقد استمر دور ارينتش المحوري في الحزب على امتداد السنوات اللاحقة ولا يزال، وكان بمثابة البوصلة الرصينة التي تصوّب المسارات والانحرافات.
ولم يتقدم أرينتش يوما إلى مركز رئاسة الحزب ولا إلى منصب رئاسة الحكومة ولا إلى منصب رئاسة الجمهورية، وإن كان اسمه دائما مطروحا بقوة. وكان ارينتش دائما في موقع «الرجل الثاني».
وشكلت مسألة اختلاط الطلاب والطالبات في مراكز السكن الجامعية هدفا لانتقادات لاذعة وجهت إلى أردوغان وإلى دعوته في بداية تشرين الثاني الحالي، إلى وضع حد لذلك عبر تشريعات تضمن رقابة على حياة الطلاب. ولاقى ذلك اعتراضات واسعة من المعارضة، التي دعت إلى وضع حد لتدخل اردوغان في الحياة الخاصة للمجتمع التركي.
لكن أصواتا من داخل «العدالة والتنمية» تحفظت أيضا على مواقف اردوغان، ومنها صوت بولنت ارينتش، الذي عبر عن مواقف مغايرة، داعياً إلى احترام الحريات الفردية. واعتبر ارينتش أنه ليس للحكومة صلاحيات لمراقبة مساكن الطلاب، ما أثار غضب اردوغان الذي اعتبر أن ارينتش أساء تفسير مواقفه، ويمكن للحكومة أن تراقب ذلك عبر صلاحيات تعطى للمحافظين.
وما كان من ارينتش، كونه المتحدث الرسمي باسم الحكومة، إلا أن دعا اردوغان إلى أن يخرج من تناقضاته ويعبر بشكل أفضل وبوضوح عن مواقفه ليمكن للمتحدث باسم الحكومة، أي هو نفسه، أن يعكس بدقة ما يريد.
وقال نائب رئيس الوزراء انه يجب على اردوغان أن يضع حدا لتناقضاته عبر بيان مكتوب، مضيفاً بغضب: «أنا لست مجرد وزير في الحكومة، بل لي حيثيتي الوازنة. أنا واحد من الذين يمثلون آراء الحزب وأفكاره وماضيه وحاضره ومستقبله. ويجب على كل واحد أن يقيّم الأمور على هذا الأساس».
في المقابل، لم يشأ اردوغان أن يرد عبر وسائل الإعلام، موضحاً انه سيبحث الأمر عندما يلتقي ارينتش شخصيا.
ويعتبر الإشكال الذي حصل بين اردوغان وارينتش الأول بينهما على هذا المستوى وبشكل علني، علما أن التباين بينهما حول «انتفاضة تقسيم» في حزيران الماضي كان قائما أيضا، حيث سعى ارينتش إلى تهدئة «الانتفاضة» والاعتراف بمطالبها المحقة في مقابل الرفض المطلق للمطالب من جانب اردوغان.
في غضون ذلك، فإنّ المواجهة اليوم مع ارينتش ليست الأولى التي تقع بين اردوغان وأسماء بارزة في «حزب العدالة والتنمية»، برغم أنّ هؤلاء كانوا يخرجون خاسرين من المواجهة مع رئيس الحكومة، ومنهم عبد اللطيف شينير، الذي كان من أبرز القيادات عندما انفصل بدوره عن اردوغان وكان في موقع وزير المالية ونائب رئيس الحكومة.
وفي نظرة إلى السنوات العشر الماضية، فقد كان مصير كل من يعارض اردوغان التصفية والخروج من الحياة السياسية.
وبعد موقف ارينتش الأخير المنتقد لأردوغان باتت التساؤلات عما إذا كان الدور الآن على ارينتش قد وقع أم لا، خصوصا أن الموقع الرسمي لـ«حزب العدالة والتنمية» على شبكة الانترنت لم ينشر موقف ارينتش.
ووصف معظم التعليقات موقف ارينتش بأنه تمرد على اردوغان. وقال طه آقيول، في صحيفة «حرييت»، إن «موقف ارينتش هو استثنائي بكل المعايير، خصوصا أنه يبحث عن الاعتدال في مواجهة نزعات التصعيد والتوتير».
واعتبر أن موقف ارينتش من اردوغان هو مظهر من مظاهر الصراعات داخل الأحزاب وليس فقط بينها. وقال إن التباين بين ارينتش واردوغان، كما بين عبد الله غول واردوغان، ليس فقط في الأسلوب بل في المضمون. والاثنان يذكّران أردوغان عاليا بالقول: «لقد أسسنا معا حزب العدالة والتنمية. أنت الزعيم، لكن الحزب ليس عبارة عنك أنت فقط، ولا يمكن لك أن تتحرك هكذا بمفردك».
وقال آقيول إن «رفاق درب اردوغان باتوا يشعرون بوطأة الاستئثار بالسلطة من جانب اردوغان، وباتوا يشعرون بالحاجة ليقولوا له: لقد أسسنا معا الحزب وجئنا سوية إلى السلطة».
وأضاف الكاتب في «حرييت» ان التوترات داخل «العدالة والتنمية» تعني عدم استقرار في تركيا، داعيا «اردوغان إلى العودة إلى مرحلة تقبل الآخرين، والتصرف كما يتصرف قادة الأحزاب في الديموقراطيات الغربية».
من جانبه، كتب ميرغين جاباس، في صحيفة «ميللييت»، أن «اردوغان قلق من موقف ارينتش، لأن رئيس الوزراء التركي لا يستحسن أن يقول له أحد قف، لا تقم بهذا، ليس هكذا»، مشيراً إلى «الأنا الأردوغانية التي لا تتحدث إلا بلغة المفرد وليس الجمع: حكومتي، وزيري، المتحدث باسم حكومتي».
وأضاف جاباس انه «إذا لم يبادر اردوغان إلى تصحيح الوضع، فإن ارينتش يمكن أن يخرج من الحكومة ومن الحزب»، معتبراً أن «خروجه سيخلق فراغا كبيرا في الحزب، ولكنه ليس فراغا من النوع الذي يخاف منه اردوغان، الذي قد يرى أن عملية الخروج ستحرره من احد كبار الأوصياء على الحزب».
السفير-محمد نور الدين