الإخوان والخطأ الاستراتيجي

الإخوان والخطأ الاستراتيجي
الخميس ٠٩ يناير ٢٠١٤ - ٠١:٢٦ بتوقيت غرينتش

مباشرة، وبدون مقدمات، ولا تمهيد، ولا كلام ساكت، ولا حمّال أوجه. أقول وبمنتهى الوضوح: إن خطأ الإخوان الاستراتيجي والكبير على مدار تاريخ السنوات القليلة الماضية التي عشناها، وكنّا شهودًا على أحداثها: أنهم يشتغلون عكس مقتضيات اللحظة التاريخية التي هم فيها.

  الأصل أن جماعة الإخوان المسلمين جماعة دعوية إصلاحية، تقوم أفكارها الرئيسية على إمكانية إحداث التغيير تدريجيًا، وعلى مدى سنوات طويلة من التربية والإعداد، ومن خلال عملية مركبة من الإصلاح على المستويات الاجتماعية والسياسية المختلفة: الفرد – الأسرة – المجتمع- مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية – القطاعات المؤثرة والمهمة في دولاب الدولة والأجهزة البيروقراطية.

  ولذلك عندما جاءت أشد اللحظات الثورية في تاريخ مصر المعاصر أحْجَمَ الإخوان عنها، وأجفلوا منها -فضلا عن أنهم لم يتوقعوها، ولم يعدّوا أنفسهم لها- وكانت تصريحات مختلف رموز الجماعة: أنهم لن يشاركوا فيها، وسيكتفون بالوقفة الاحتجاجية عند دار القضاء العالي مع بقية القوى السياسية.

  ولمّا علت موجات اعتراض الشباب داخل الجماعة ضد هذا القرار، كان القول: إن المشاركة: فردية، وقرار شخصي، ويتحمل فيها الفرد مسؤولية نفسه.
  حتى جاء يوم الغضب -الجمعة 28 يناير- فنزلت جماعة الإخوان بكل ثقلها في الأحداث، ذلك بعد أن تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، واستبان اتجاه الريح، وثبت أن نظام مبارك قد غدا في عداد الأموات، ولم يبق إلا إعلان مراسم الدفن.
  وعلى مدار عام ونصف هي فترة حكم المجلس العسكري كنت تجد اختيارات الإخوان وفي أشد اللحظات الثورية، تؤكد على منهج الإصلاح والتغيير التدريجي، بما لا يتناسب أبدًا مع: مقتضيات اللحظة التاريخية.
  ولا ضغوط الشباب الثائر -داخل الجماعة وخارجها- في اتجاه إحداث تغيير فوري وسريع، يتناسب مع حالة الثورة التي يمرون بها.
  لكن ظلت الجماعة تشتغل بأساليب ما قبل 25 يناير في الإصلاح التدريجي، تلك الأساليب التي عفى عليها الزمن، ولم تعد تصلح في أجواء شديدة الثورية والفوران.
  للأسف: ظلوا يشتغلون بأساليب نظام مبارك، بعد أن سقط مبارك نفسه، حتى التف عليهم نظام مبارك.
  وظلت الجماعة تراهن على العمل السياسي والإصلاح من داخل مؤسسات نظام مبارك، وأعلنوا: إن البرلمان قبل الميدان، بل وتركوا الميدان للشباب ينهال عليهم رصاص المجلس العسكري، حتى قال أستاذنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح: إن المسارين يتكاملان ويتوازيان ولا يتقاطعان، وإن الميدان ظهير شعبي مهم للبرلمان، في إنكار واضح على ترك الإخوان للشارع، ولشباب الثورة في مواقع لا زالوا يعيرون بها، كيوم محمد محمود.
  لكن من يسمع ومن يستجيب.
  وظلت جماعة الإخوان تؤكد على الثقة في المجلس العسكري في الوقت الذي كان رصيد هذا المجلس لدى الشعب أوشك على النفاد، بل لقد نفد بالفعل، بعد أحداث: محمد محمود، ومجلس الوزراء، وماسبيرو، وغيرها كثير: قتل، وسحل، واستبداد، ومراوغة، والتفاف على الثورة.
  وكانت أكثر اللحظات ثورية لحظة تولي الدكتور محمد مرسي الرئاسة، ووقوفه في ميدان التحرير (وفتح صدره فيه) وأعلن أن: الشعب وشباب الثورة هم مصدر شرعيته.
  ويا ليته صدق.
  كانت تلك اللحظة أشد اللحظات الثورية توهجًا في تاريخ السنوات القليلة الماضية: كان هناك توافق عام حول الرجل، إلا بقية قليلة من الفلول ورجال مبارك، حتى أن أقوى مؤسسات الدولة العميقة (المجلس العسكري) ما كان لها إلا أن تطأطئ الرأس حتى تمضي تلك الموجة الثورية الجارفة إلى حال سبيلها.
  وكانت تلك اللحظة التاريخية أنسب اللحظات بعد 25 يناير للقضاء على نظام مبارك، بعد أن سقط مبارك نفسه، وإجراء محاكمات ثورية عاجلة، لا أن تحاكم مبارك ونظامه بقوانين هم واضعوها، أو كما يقول الأستاذ الكبير المستشار البشري، أو الحكيم البشري كما يحب أن يناديه أستاذنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح: "لقد طالبنا من قبل بأن تجرى محاكمة المسئولين عن نظام مبارك محاكمة سياسية لتوقع عليهم عقوبات سياسية، وأن يعزلوا سياسيا عن ممارسة العمل العام".
  وليتنا جميعًا نعيد قراءة مع كتبه المستشار طارق البشري بعنوان: (أخطاء الإخوان) في مائة يوم من عمر مجلس الشعب، جريدة الشروق 11 مايو 2012.
  لذا كان طبيعيًا جدًا أن نشاهد "مهرجان البراءة للجميع" الذي أدمى قلوب أهل الشهداء والضحايا، وشباب الثورة، وحتى شباب الإخوان.
  للأسف اختار الدكتور مرسي وعشيرته الاختيار الأسوأ: اختاروا ما يسمى بالمحاكمات القانونية.
  واختاروا طريق الإصلاح التدريجي.
  واختاروا إصلاح مؤسسات نظام مبارك من داخلها، لا تغييرها جذريا، وذلك بإحداث تطهير شامل في تلك المؤسسات الفاسدة.
  في لحظة تاريخية تغلي ثورية، وشباب يغلون جراء عهود الاستبداد، ومحاولات المجلس العسكري المستمرة الالتفاف على ثورة يناير، حتى أصبح المجلس العسكري هو رأس الحربة في الثورة المضادة، التي أعلن السيسي انتصارها في 3 يوليو، تأتي الاختيارات السيئة من الهواة والتجار والانتهازيين والسماسرة.
  وكأنه مكتوب على الجماعة (رغم التضحيات الجسام): أن تشتغل عكس اتجاه التاريخ.
  وتشتغل عكس مقتضيات اللحظة التاريخية.
  وتشتغل عكس متطلبات الأحداث.
  وتأخذ أشد القرارات خطأ في تاريخها.
  ثم تدفع الثمن من دماء شبابها، ومقدرات البلد.
  وضياع لحظة تغيير حقيقي.
  ففي عز أشد اللحظات ثورية يلجئون للإصلاح التدريجي.
  وفي أشد اللحظات عسكرة، والاستهانة بدماء الشباب، وعزم نظام السيسي -هذا النظام الانقلابي كما يسمونه- تثبيت أركان دولته مهما كانت التضحيات، ومهما كانت الكلفة باهظة: بشرًا واقتصادًا، يصرّون على: التغيير الفوري.
  وإرجاع الشرعية.
  وعودة الرئيس المنتخب.
  ودحر الانقلاب.
  فلا تفاوض، ولا حلول وسط، ولا مساومات، ولا تحالفات حقيقية.
  ومن يشكك في إمكانية حدوث هذا الكلام، وصحة هذا الطريق، ودقة هذه الاختيارات، ومدى موافقتها: لمقتضيات اللحظة التاريخية.
  وموازين القوى على الأرض.
  وضخامة الدعم الإقليمي والدولي لـ 3 يوليو.
  يتهم بأنه: يخون دماء الشهداء، ويفرط في الشرعية، ويركن للظالمين.
  تماما كما يفعل نظام السيسي في اتهامه لكل من يشكك في جدوى الحلول الأمنية، وأنها ستذهب بالدولة وبالجميع إلى الجحيم، بأنه: طابور خامس، وإخواني متخفي.
  نفس منهج الإقصاء الغبي، ونفس منهج الاستئصال العقيم.
  صدقوني الأمر يحتاج إلى مراجعة جذرية، في أصل المنهج: أسسًا وأفكارًا ومسارات.
  أخر كلام: من روائع الشيخ محمد الغزالي عليه الرحمة والرضوان: ليس من الضرورة أن تكون عميلاً لتخدم عدوك، يكفيك أن تكون غبيًا.


•الحوار المتمدن - د. عمرو عبد الكريم