في ذكرى ميلاد صادق آل البيت (ع)

في ذكرى ميلاد صادق آل البيت (ع)
الخميس ٠٨ يناير ٢٠١٥ - ٠٧:٥٥ بتوقيت غرينتش

في السابع عشر من شهر ربيع الاول، سنة ثلاث وثمانين من الهجرة النبوية الشريف، ولد في المدنية المنورة الإمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

ترعرع الإمام الصادق عليه السلام في ظلال جده الإمام السجاد عليه السلام وأبيه الإمام الباقر عليه السلام وعنه اخذ علوم الشريعة ومعارف الاسلام. وهکذا فان الصادق عليه السلام يشکل مع آبائه الطاهرين حلقات متواصلة مترابطة متفاعلة، حتی تصل برسول الله صلی الله عليه وآله وسلم، فهي تشکل مدرسة وتجربة حية يتجسد فيه الإسلام الاصيل وتطبق فيها احکامه وتحفظ مبادؤه.   
وافصح عمه الشهيد زيد ابن الامام علي زين العابدين عليهما السلام عن عظيم شأنه فقال: في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقة، وحجة زماننا ابن اخي جعفر لايضلّ من تبعه ولايهتدي من خالفة. (الكافي).
وقال مالك بن أنس: ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر افضل من جعفر بن محمد الصادق علما وعبادة وورعا. (تهذيب التهذيب).  
لقد شق الإمام الصادق عليه السلام العلوم بفكره الثاقب وبصرة الدقيق حتى ملأ الدنيا بعلومه، وكان من مظاهر سعة علمه أنه قد ارتوى من بحر علومه اربعة آلاف طالب وقد اشاعوا العلم والثقافة في جميع الحواضر الاسلامية ونشروا معالم الدين واحكام الشريعة.

كما كان عليه السلام من اندى الناس كفا، وكان يجود بما عنده لانعاش الفقراء والمحرومين، اما الصدقات في السر فانها من افضل الاعمال واحبها لله تعالى لانها من الاعمال الخالصة التي لانشويها اي غرض من اغراض الدنيا، وقد ندب اليها أئمة أهل البيت عليهم السلام، كما أنها كانت نهجا لهم، فكل واحد منهم كان يعول جماعة من الفقراء وهم لايعرفونه، وكان الإمام الصادق عليه السلام يقوم في غلس الليل البهيم، فيأخذ جرابا فيه الخبز واللحم والدراهم فيحمله على عاتقه ويذهب به الى أهل الحاجة من فقراء المدينة فيقسمه فيهم، وهم لا يعرفونه، وماعرفوه حتى مضى شهيدا إلى الله تعالى فافتقدوا تلك الصلات فعلموا أنها منه عليه السلام. 
ومن بوادر كرمه وسخائه حبه للضيوف وتكريمه لهم، وقد كان يشرف على خدمة ضيوفه بنفسه، كما كان يأتيهم بأشهى الطعام وألذه، وأوفره، ويكرر عليهم القول وقت الاكل:" اشدكم حبّا لنا اكثركم أكلا عندنا..". 
ومن مظاهر شخصيته العظيمة نكرانه للذات وحبه للتواضع وهو ابن رسول الله وسيد المسلمين، وامام الملايين، وكان من تواضعه انه كان يجلس على الحصير، ويرفض الجلوس على الفرش الفاخرة، وكان ينكر ويشجب المتكبرين حتى قال ذات مرة لرجل من إحدى القبائل: من سيد هذه القبيلة؟ فبادر الرجل قائلا: أنا، فأنكر الامام عليه السلام ذلك وقال له: لو كنت سيدهم ما قلت أنا..".       
ومن مصاديق تواضعه ونكرانه للذات: أن رجلا من السواد كان يلازمه، فافتقده فسأل عنه، فبادر رجل فقال مستهينا بمن سأل عنه: إنه نبطي...فردّ عليه الامام قائلا:"أصل الرجل عقله، وحسبه دينه، وكرمه تقواه، والناس في آدم مستوون..". فاستحيى الرجل.  
كان الإمام الصادق عليه السلام على جانب كبير من سمو الاخلاق، فقد ملك القلوب وجذب العواطف بهذه الظاهرة الكريمة التي كانت امتدادا لاخلاق جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي سما على سائر النبيين معالي أخلاقه.
وكان من مكارم أخلاق الإمام وسمو ذاته انه كان يحسن إلى كل من اساء اليه، وقد روي أن رجلا من الحجاج توهم ان "هيمانه" (وهو كيس يجعل فيه ويشد على الوسط) قد ضاع منه فخرج يفتش عنه فرأى الإمام الصادق عليه السلام يصلى في الجامع النبوي فتعلق به ولم يعرفه، وقال له: انت اخذت همياني؟. فقال له الإمام بعطف ورفق: ما كان فيه؟ فقال ألف دينار، فاعطاه الإمام ألف دينار، ومضى الرجل الى مكانه، فوجد "هيمانه" فعاد الى الامام معتذرا منه ومعه المال فابي الامام قبوله وقال له: شيء خرج من يدي فلا يعود إلي، فبهر الرجل وسأل عنه فقيل له: هذا جعفر الصادق وراح يقول الرجل باعجاب: لاجرم هذا فعال امثاله. إن شرف الإمام عليه السلام الذي لاحدود له هو الذي دفعه الى تصديق الرجل ودفع المال له.  وقال عليه السلام: "إنا أهل بيت مروءتنا العفو عمن ظلمنا".

وكان يفيض باخلاقه الندية على حضار مجلسه حتى قال رجل من العامة: والله ما رايت مجلسا أنبل من مجالسته، ومن الصفات البارزة في الإمام الصادق عليه السلام الصبر وعدم الجزع على ما كان يلاقيه من عظيم المحن والخطوب، ومن مظاهر صبره انه توفى ولده اسماعيل الذي كان كان ملأ العين في ادبه وعلمه وفضه – دعا عليه السلام جمعا من اصحابه فقدم اليهم مائدة جعل فيها افخر الاطعمه واطيب الالوان ولما فرغوا من تناول الطعام سأله بعض اصحابه فقال له: ياسيدي لا أرى عليك اثر من آثار الحزن على ولدك؟ فاجابه عليه السلام: "وما لي لا اكون كما ترون، وقد جاء في خبر أصدق الصادقين-يعني جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- إلى اصحابه: إني ميت وإياكم".      
أما الاقبال على عبادة الله تعالى وطاعته فانه من أبرز صفات الإامام الصادق عليه السلام، فقد كان من اعبد الناس لله في عصره، وقد اخلص في طاعته لله كأعظم مايكون الاخلاص ومن صور عبادته، فقد أشاد الإمام الصادق في كثير من احاديثه بالصلاة كثيرا لانها افضل العبادات واهمها في الاسلام قائلا: "ماتقرب العبد الى الله تعالى بعد المعرفة افضل من الصلاة". وقال عليه السلام:"إن افضل الاعمال عند الله يوم القيامة الصلاة، وما احسن من عبد توضأ فأحسن الوضوء. وقال عليه السلام:" الصلاة قربان كل تقي". وقال عليه السلام ايضا:"إن شفاعتنا لاتنال مستخفا بالصلاة".ومن الجدير بالذكر أن الامام الصادق عليه السلام لم يدع نافلة من نوافل الصلاة إلا أتى بها بخشوع واقبال نحو الله.   
واما الصوم الذي هو من العبادات المهمة في الاسلام وذلك لما يترتب عليه من الفوائد الاجتماعية والصحية والاخلاقية فقد قال الامام عليه السلام:" وهو جُنّة من النار" وقد حث الإمام الصادق عليه السلام، الصائم على التحلي بالاخلاق والآداب العالية وقال عليه السلام: واذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك من القبيح والحرام ودع المراء واذى الخادم وليكن عليك وقار الصيام ولاتجعل يوم صومك مثل يوم فطرك سواء..".    
وكان عليه السلام صائما في اغلب ايامه تقربا إلى الله تعالى اما شهر رمضان المبارك فكان يستقبله بشوق بالغ وقد آثرت عنه بعض الادعية في سائر ايامه وفي ليالي القدر المباركة وفي يوم عيد الاضحى والاغرّ.
اما حجّه فقد حجّ الامام الصادق عليه السلام مرات متعددة والتقى بكثير من الحجاج المسلمين وقد كان المعلم والمرشد لهم على مسائل الحج فقد جهد هو وابوه الامام الباقر عليهما السلام، على بيان احكام الحجّ بشكل تفصيلي وعنهما اخذ الرواة والفقهاء احكام هذه الفريضة ولولاهما لما عرفت مسائل الحجّ واحكامه، وكان الإمام الصادق عليه السلام يؤدي بخضوع وخشوع مراسيم الحج من الطواف والوقوف في عرفات ومنى ، وكان عليه السلام من اعظم الخاشعين والداعين في مواقف الحج فقد روي ان سفيان الثوري قال: والله رايت جعفر بن محمد عليه السلام ولم ار حاجا وقف بالمشاعر واجتهد في التضرع والابتهال اكثر منه، فلما وصل عرفات أخذ من الناس جانبا واجتهد في الدعاء في الموقف.      
لقد فجر هذا الامام العظيم ينابيع العلم والحكمة في الارض، وساهم مساهمة ايجابية في تطوير العقل البشري وذلك بما نشره من مختلف العلوم. لقد ازدهرت الدنيا بهذا المولود العظيم الذي تفرع من شجرة النبوة ودوحة الإمامة ومعدن الحكمة والعلم، ومن أهل بيت أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
فسلام عليه وعلی الائمة الهداة الميامين من آبائه وأبنائه، سلاما دائما مع الخالدين.