أحمد الجلبي.. جدلية الخيانة والبطولة

أحمد الجلبي.. جدلية الخيانة والبطولة
الخميس ٠٥ نوفمبر ٢٠١٥ - ٠١:٥٧ بتوقيت غرينتش

فتحت وفاة "السياسي" العراقي أحمد الجلبي (1944 ـ 2015) أكثر من ملف هذه الايام وأختلف القوم بين مادح له واعتباره بطلا من ابطال تحرير العراق وآخرين قادحين أسفوا لانه لم يحاكم ويعلق على حبل المشنقة.. فهل من حقيقة في تقييم الرجل، أم ان كل ما قيل فيه مجرد مواقف سياسية واجتهادات كتَاب؟!

وقد يسأل القراء الكرام عن مدى صدقية هذه الكتابة عنه ايضا، في زمن اصبح ادعياء الصدق كثيرون، فقد تكون كصنوها موقفا أو اجتهادا.. وأنا أؤكد انها ـ نعم ـ موقف لكنه لا ينتمي الى صنف المواقف السياسية والطائفية التي تحرك الكثير من الاقلام، كما انه اجتهاد ـ قد ـ يكون مغايرا لما ألفناه من معلقات المديح والهجاء..

بداية.. أحمد الجلبي ليس رجل سياسة، بل هو النسخة العراقية "غير الناضجة" لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.. أو هكذا أراده الأميركان.. أحمد الجلبي له تاريخ اسري فقط، رجل يحسن حساب الأرقام ويفكر بطريقة التاجر، اي الربح والخسارة، وتاريخه الى ما بعيد الانتفاضة الشعبانية المباركة (1991) يؤيد ذلك.

فبعد تحول المنظومة الغربية عن النظام العراقي وقرارها بتدمير هذا البلد وتحويله الى نقطة انطلاق في مشروعها بالشرق الاوسط الجديد، وما تلى حرب عاصفة الصحراء (1990 ـ 1991) وبعد ان أجهضت الولايات المتحدة والسعودية انتفاضة الشعب العراقي في الجنوب (الشيعة) وسمحت لصدام بسحقها والتنكيل بالعراقيين، خوفا من تصدر الاسلاميين القريبين من ايران للمشهد العراقي، حيث ان عراقاً ضعيفاً أفضل للأميركان والسعوديين من عراق قوي يحكمه الشيعة... وهو ما حصل فيما بعد.

في ظل هذه التطورات بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا وبمساعدة بعض الانظمة العربية (السعودية والاردن والكويت) تبحث عن معارضة عراقية يكون زمامها بيد سادة البيت الابيض.. معارضة يصنع لها تاريخ نضالي في مواجهة النظام لتوازي احزاب المعارضة المعروفة وفي مقدمتهم الاسلاميون.

كان المفروض ان تخلق هذه المعارضة على جميع المستويات ولاحتواء جميع الشرائح في المجتمع العراقي (هنا اتحدث عن المكون الشيعي الاكبر فقط) مستفيدين من تجارب استلام السلطة في البلدان الاخرى، خاصة لبنان الذي يتشابه بتنوعه الطائفي والاثني مع العراق (لبننة العراق سياسياً واجتماعياً).. فظهرت اسماء في عقد التسعينيات لم يكن لها اي حضور سياسي ونضالي، بل ان بعضها استدعي من متاحف التاريخ، كأياد علاوي ومجيد الخوئي وسعد صالح جبر ومحمد بحر العلوم وأحمد الجلبي وهو ابن السياسي ورجل الاعمال الشيعي عبد الهادي الجلبي وكان قد ترك العراق مع ثورة/ انقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958.

وبما ان مشروع الحركات الاسلامية في العراق فشل تحت وطأة عوامل واسباب متعددة، منها: الواقع الأمني في داخل العراق، والتغييرات العميقة التي تركتها سنوات الحروب الطويلة والحصار في تركيبة ونسيج المجتمع العراقي ثقافيا ونفسيا، والمخطط الغربي للمنطقة، واداء الاسلاميين انفسهم (التناحر والتشظي والافتقاد لاستراتيجية واضحة وموحدة).. فقد وجد اركان المشروع الأميركي ـ البريطاني في زحام المعارضة العراقية فسحة للظهور كقوى ليبراية تشكل اضافة نوعية للجهد المعارض أو قوة ثالثة توازن تفرد الاسلاميين والاكراد بمستقبل القرار العراقي.
وسرعان ما دخل هؤلاء بتحالفات معلنة أو ضمنية مع المعارضة الاسلامية المنهارة والمشتة بفعل "الهزيمة النفسية"، حسب تعبير العلامة الفقيد محمد مهدي الآصفي.. ووجدوا قنوات اتصال جاهزة مع جميع الحركات الاسلامية والتنظيمات العقائدية من خلال اسلاميين سابقين ينتشرون في بلدان المهجر.

لذلك، أرى من سخرية القدر ان يجري الحديث عن دور الجلبي وغيره في "احتلال" أو "تحرير" العراق (حسب المعارضين والمؤيدين للعملية السياسية في العراق)، وفي الدفع بالأميركان لتخليص العراق والمنطقة من صدام حسين، بينما الأميركان اعلنوا عن انفسهم قوة احتلال منذ اللحظة الاولى وتصرفوا وفق برنامج مدروس مع جميع الاشياء.. فأي تحرير واي ارادة للشعب العراقي فيما حصل؟ وكم كان عمق المؤتمر الوطني العراقي (تنظيم الجلبي) وحركة الوفاق الوطني (تنظيم علاوي) أو امتدادات السيد مجيد الخوئي والسيد محمد بحر العلوم وأمثالهم بين شرائح الشعب العراقي في الوسط والجنوب؟!

باعتقادي وبغض النظر عن الخلفيات والنتائج التي أدت الى هذه المواقف ازاء الجلبي، فان هؤلاء (ومعهم العديد من الاسلاميين) كانوا مطية الاحتلال الأميركي ومسوقين لمشروعه باحتلال العراق مهما كان العنوان والمبرر والدافع والاهداف.. فهم إما عملاء موقعون (بفتح القاف) أو أغبياء مهوسون.. هذا المشروع الذي كان حلقة اساسية في مخطط التقسيم الطائفي والقومي والعرقي والديني للمنطقة وما وصلنا اليه اليوم من احتراب.

بالطبع هذا الرأي لا يهمل دور نظام المجرم صدام حسين وأشقائه من العرب وخاصة الخليجيين في الوصول الى هذه المزرية وتسليم العراق لفتنة الأميركان والعملاء، ليتحول صدام حسين بين عشية وضحاها لديهم الى "بطل التصدي لاسرائيل" و"سدَ العروبة بوجه المطامع الفارسية"!.. في حين ان إسقاط نظام صدام حسين كان بالاساس مشروعا أميركياً ـ خليجياً، وان اموال الحرب على العراق ونقاط انطلاق الطائرات والصواريخ وجحافل القوات الغازية كانت جميعا خارج الجغرافية الشيعية.. بل هي خليجية ـ اردنية ـ كردية بامتياز (لم يشارك فيها النظام "الرافضي" في ايران ولا العلوي "النصيري" في سوريا).. لكن غباء بعض الاسلاميين (الشيعة) وتكالبهم على السلطة وتصدرهم المبكر للمشهد العراقي من أجل مكاسب فردية أو حزبية في أحسن التقديرات، هو الذي "دنس" ساحة التشيع، في ظل هجمة اعلامية تسقيطية "عاهرة" يقودها الغرب والمستعربين على حدَ سواء.. في حين ان حزب الله (الشيعي) كان يقود جهود مصالحة بين النظام والاسلاميين الشيعة.

ومن خلال متابعة ما كتب في الاعلام بشأن الجلبي هذه الايام، يمكن رصد موقفين رئيسيين: غالبية من الكتاب العرب وخاصة الاردنيون منهم والفلسطينيون (مع استثناء الخليجيين لاسباب طائفية) ضد الجلبي، ومنه ينسلون الى الهجوم على الشيعة والتشيع وايران، في حين ان الكتاب العراقيين كانوا اكثر انصافا للرجل رغم كثرة "منتقديه"، اولئك وصفوه بـ"ابو رغال" وهؤلاء وصل ببعضهم وصفه بـ"عبد الكريم قاسم" ثاني.

واذا كان هؤلاء العرب ينطلقون بمعضمهم في تقييم الجلبي ومعارضي نظام صدام حسين من "عقدة" خيانة الانظمة العربية للقضية الفلسطينية ولان صدام حسين ضرب الكيان الصهيوني بالصواريخ (التي لم تصب هدفا ولم تدمر موقعا وبقي العراق لسنوات يدفع غرامة اطلاقها)، فان العراقيين في تقييمهم للجلبي ينطلقون من دكتاتورية صدام حسين السوداء وسنوات العمر الذي قضوه تحت حكمه المظلم والجائر.. وللعرب المدافعين عن "بطولة" صدام انقل هذه المعلومة: فاليبحثوا عن عدد الصفقات التي عقدها نظام "القائد الضرورة" و"بطل القادسية الثانية" و"صدام اسمك هزَ أمريكا" الذي اخرج من حفرة الجرذان في تلك الحالة الغنية عن الوصف، فاليبحثوا عن عدد الصفقات التي عقدها هذا النظام مع الكيان الصهيوني خلال سنوات حربه مع ايران، فحسب مصادر مطلعة هناك عشرات الاتفاقيات الامنية والتسليحية والاقتصادية التي كان عرابها مثلث الخيانة العربية مصر حسني مبارك والاردن والسعودية.. فلا تزايدوا على اهل العراق وشيعته بالتحديد وبلدانكم ما هي الا محميات أميركية بريطانية فرنسية، وساحات يجول فيها صبيان الموساد وفاتناتهم...

أعود الى أحمد الجلبي، فقد صدم الرجل ومن جاء معهم ضمن المشروع الغربي بقدرة السياسيين العراقيين وتماسيح العمل المنظم في المصادرة والتنكيل والتهميش والذي قضى على طموحات "ثلاثي المرح!" في تصدر المشهد العراقي، خاصة وانهم يرون انفسهم ـ أو هكذا ارادوا تصويرهم ـ أحق بالسلطة لانهم من قادوا جحافل الأميركان نحو العراق!.. فكان ما كان من مصير مجيد الخوئي وسرعان ما تم تهميش أحمد الجلبي من قبل "اسلاميو السلطة" حسب تعبير الاستاذ سليم الحسني، أما أياد علاوي الذي بقي مقاتلا بسلاح البعثيين والمال والدعم الخليجيين، فأتصوره وهو يحمل مشروعه "واللهي ما أدري!" معه عالم البرزخ، لأنه أصبح منذ فترة طويلة خارج اللعبة، حتى لو كابر وأصر في كل مرة على اقحام رأسه فيها.

أحمد الجلبي مشروع احتلالي كان كل طموحه يتلخص في تصدر الواجهة وتقديم الخدمات لابناء طائفته (وشعبه) مشروع افشله الضد النوعي من المتعاملين مع الاحتلال وديناصورات الاسلاميين الذين لم يستطيعوا هضم رفاقهم في الدرب والمسيرة.. كما افشله رهان الأميركان المتجدد على الاسلامين بعد مرحلة بريمر في حكم العراق.. التجربة التي كرروها في مصر بعد "الربيع" مع الاخوان المسلمين..
أحمد الجلبي كان ضحية فشل طموحاته ولعبة الامم وتعقيدات الوضع العراقي.. فهل من مدكر!
بقلم: علاء الرضائي