الشعب الفلسطيني يتصالح مع نفسه.. فأين العرب؟

الشعب الفلسطيني يتصالح مع نفسه.. فأين العرب؟
الخميس ١٢ نوفمبر ٢٠١٥ - ٠٨:٣٦ بتوقيت غرينتش

لعل من أبرز النتائج العملية التي حققتها انتفاضة السكاكين المباركة، أنها أسقطت مشروع تقسيم المسجد الأقصى المبارك زمانيا ومكانيا لشرعنة صلاة اليهود فيه كمقدمة لهدمه وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه أمام تخاذل الحكام العرب وصمت الشعوب، مستغلة في ذلك انشغال المقاومة في الحروب المفتوحة ضد التكفيريين في المنطقة..

وبذلك، أثبت الشعب الفلسطيني الأصيل أنه يخوض معركة المقدسات نيابة عن الأمة جمعاء، والتي يبدو أن غالبيتها ويا للأسف، لم تعد ترى في تحرير القدس وفلسطين قضيتها المركزية الأولى بفعل التضليل الديني والسياسي والإعلامي الذي يمارس عليها ليل نهار لتغير قناعاتها كي تتخلى عن التزاماتها الدينية والأخلاقية بنصرة الشعب الفلسطيني المظلوم..

هناك من يروج إلى أن قضية فلسطين مسألة سياسية تهم الفلسطينيين دون سواهم من العرب والمسلمين، وهناك من شيوخ الجهل والضلال المحسوبين على ما يسمى بـ”السلفية العلمية” في الأردن الذي هو في الأصل فلسطين، من ذهب بعيدا في تحريم قتال اليهود “المساكين” جنودا ومستوطنين، لأنهم يوفرون للفلسطينيين الشغل والماء والكهرباء والخدمات الأساسية، ويعتبرون في حكم “المسالمين”..

ولعل الأخطر من هذا وذاك، هو ما أشار إليه سماحة السيد في كلمته لاتحاد علماء المقاومة الأسبوع المنصرم بما مفاده، إن أخطر ما يعمل عليه اليوم، هو تحويل الفلسطينيين إلى عدو، بهدف تغيير بوصلة الصراع من “إسرائيل” التي تحولت إلى حليف نحو محور المقاومة الذي أصبح في عرف “الأعراب” هو العدو الذي يجب قتاله خدمة لمشروع الهيمنة الصهيو – أمريكية على المنطقة..

وليس غريبا والحال هذه، أن لا نرى تضامنا مزلزلا من قبل الشعوب العربية مع فلسطين كما كان الحال في الزمن الجميل، بعد أن أجهزوا على الهوية العربية، وفجروا الهوية الإسلامية، وأصبح للصراع طعم طائفي بلون الدم، الأمر الذي شجع الحكام العملاء على عدم دعم الفلسطينيين ولو بإدانة الإعدامات الميدانية التي يرتكبها الجيش الصهيوني الجبان وقطعان المستوطنين في حق المدنيين العزل المنتفضين ضد الظلم والقهر والإذلال والاعتقالات التعسفية والحصار والتجويع..
 

***

ومع ذلك، وبرغم كل ذلك، ها هو الشعب الفلسطيني الجبار يقرر بانتفاضته المجيدة إعادة كتابة التاريخ، انطلاقا من إنهاء الانقسام الذي ظل قائما بين السلطة والفصائل لسنوات عديدة، فأخرجها من دائرة اهتماماته، ونبذ كل الخلافات التي كادت تقتل حلمه بطعنة سكين بقر بها بطن الإحتلال، فأسقط رهان الواهمين على السلطة والثروة، وسحب ثقته من كل القيادات، فتصالح بذلك مع نفسه، وقرر تغيير واقعه بإرادته وعزيمته وثباته وتضحياته..

فلتخرس كل الأفواه النتنة المطالبة بالتعقل والتهدئة، وليقف الجميع في خشوع احتراما للدم الطاهر الذي يراق في الميادين، ليرسم معالم مستقبل واعد لخريطة فلسطين القديمة، من خارج خرائط الطريق الأممية، وبعيدا عن اتفاقيات العار الفلسطينية، ورعاية الذل العربية، ومساعي خديعة السلام الأمريكية..

لا صوت يعلو اليوم فوق صوت هدير الشعب الغاضب، فاتركوا السكاكين تعيد رسم المعادلات الجديدة.. فلا أحد في هذا العالم بقادر على إسكات صراخ اليهود وهم يستغيثون من هول الفاجعة، حتى الرئيس أوباما أدرك أنه ليس في مقدوره إنقاذهم، فقال مستبقا زيارة “النتن ياهو” لواشنطن: أن “لا فرصة لتحقيق تقدم في عملية السلام”، مكررا مقولته المشروخة، أن أمريكا ملتزمة بأمن الصهاينة المحتلين، وأن باعتقاده، “إسرائيل” ليس لديها الحق فقط، بل وأيضا واجب حماية نفسها..

ومعنى المعنى، أن المرحلة بالغة الخطورة، فأمريكا بجبروتها لا تستطيع الدفاع عن أمن “إسرائيل” من الجو بغربان الحديد ضد شعب محتل أعزل، وأن مقاليد الأمور خرجت من يد الوكلاء والعملاء، وانتقلت من أروقة الكواليس الدبلوماسية المغلقة، ودهاليز المخابرات المظلمة، إلى ساحات المواجهة، بعد أن استرد الشعب الفلسطيني قراره السيادي، وأعلن الحرب على الإحتلال باسم السكين، فلا يراهنن أحد على طاولة الحوار، لقد انتهى زمن المراوغة والخديعة، ولم يعد بإمكان أحد إقناع أطراف الصراع بإمكانية تحقيق السلام، وعلى العالم انتظار نتائج ما ستسفر عنه الانتفاضة الجديدة لمعرفة المنتصر من المهزوم على الأرض مهما تطلب الأمر من وقت ومهما تطلب من تضحيات..

لم يعد “النتن ياهو” يقنع حتى الأغبياء برغبته في السلام وإقامة دولتين لشعبين في فلسطين كما يحلو له أن يردد أمام الإعلام في واشنطن، والعالم لا يرى على أرض الواقع إلا مزيدا من المستوطنات التي تنمو كالفطر في الضفة الغربية والقدس الشريف حتى لم يبقى للشعب الفلسطيني متنفس للعيش.. ومزيدا من هدم البيوت واقتلاع أشجار الزيتون وتخريب الحقول ومصادرة الممتلكات.. وتصعيدا في العنف والقتل وكأن الشعب الفلسطيني تحول إلى قطعان من الجرذان.. وحملات اعتقالات ممنهجة لا تتوقف ليل نهار.. وحصار خانق لتركيع الفلسطيني بالجوع والفقر والقهر.. وإذلاله عند عند كل حاجز وحاجز لقتل الكبرياء في نفسه حتى يستسلم استسلام العبد للسيد.. فإذا لم يكن هذا هو الجحيم بعينه، فلا وجود لجحيم آخر في أي مكان من الأرض على الإطلاق..

وإذا كان لإسرائيل جيش جبار يحميها، وأمريكا والغرب الأطلسي والصهاينة العرب يدافعون عن إرهابها، فللشعب الفلسطيني رب يحميه، وسكاكين المطبخ التي لا يطالها الحصار والمنع يدافع بها عن وجوده ومصيره ومقدسات العرب والمسلمين، في انتظار أن تمده المقاومة الشريفة ببضع بنادق يواجه بها قدره، ولا حاجة له لأكثر من هذا مددا..


***

اليوم رفعت الأقلام وطويت الصحف وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان، وآن الأوان للسلطة التي راهنت على وهم السلام أن تقدم استقالتها وتنسحب من المسرح والتاريخ حفظا لماء الوجه إن تبقت لها ذرة من حياء، فيكفيها ما نهبته من أموال المساعدات، وما اكتسبته من التجارة بالوكالة حين حولت الفلسطينيين إلى زبناء لمنتوجات المحتل، فلتأخذ ثروتها وترحل بعيدا عن ثورة فلسطين..

كما حان الوقت للفصائل التي تقول أنها اختارت نهج المقاومة بديلا عن نهج المساومة، أن تتخلى عن أوهامها باستلام السلطة من السلطة، وتمتشق البندقية لتواجه النار بالنار، لأن القضية قضية أمة لا قضية إمارة، وفلسطين هي التي ستشعل المنطقة وتزلزل الأرض من تحت عروش العملاء والخونة ولو بعد حين، في انتظار أن تستفيق الشعوب العربية من غيبوبتها وتسترد وعيها وتزلزل الأرض من تحت أقدام الحكام الخونة..

الشعب الفلسطيني المظلوم، عاد اليوم إلى وعيه بعد أن نفذ صبره ومل من صبره الصبر، وأدرك بعد مسارات عبثية مريرة، أن لا أحد سيحرر أرضه ويعيد له حريته واستقلاله وكرامته غير تضحيات أبنائه الشرفاء الذين رفعوا شعار “الموت ليس النهاية.. الموت هو فقط البداية”، وقرر العمل بنصيحة عدوه الذي قال: “لو أن الفلسطينيين واجهوا الإسرائيليين عام 48 بثورة السكاكين، لما بقي يهودي واحد في فلسطين”.

لم يعد بعد اليوم مسموحا للفلسطيني المجاهد التعويل على سلطته أو قيادات فصائله بعد أن ثبت لديه بالدليل القاطع الذي لا يرقى إليه الشك، أنهم جميعا تحولوا إلى سماسرة يتاجرون بالقضية في سوق النخاسة السياسية، ويحاولون احتواء انتفاضته المباركة عبر المطالبة بتأطيرها جهارا في النهار ليركبوها سرا في الليل، وقبض ثمن الدم الطاهر الذي سقط في الإعدامات الميدانية أمام سمع وبصر المتآمرين على فلسطين، من الذين قرروا حجب الميادين حتى لا يكتشف العالم الحقيقة ويدرك خستهم ونذالتهم وتآمرهم على القضية..


***

لقد أخطأ العرب عندما قرروا إعلان الحرب بجيوشهم النظامية عام 67 على “إسرائيل”، وقد كلفهم هذا الخيار هزيمة مذلة تحولت إلى عقدة سموها النكسة لتضاف إلى عقدة نكبة 48، فاكتمل بذلك جدار العجز واليأس النفسي في عقول وصدور القاعدين الجبناء الذين يذوقون الموت ذعرا في كل يوم أكثر من مرة، فيما يذوق الشجعان الموت الموت مرة واحدة فقط، على رأي المرحوم ‘نيلسون مانديلا’..

وأخطأت مصر عندما اعتقد السادات أنه لا يمكن هزيمة “إسرائيل” لأنها محمية دوليا، وأن 99 % من أوراق اللعبة بيد واشنطن، وأن لا سبيل لرفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني سوى بالسلام مع الكيان الصهيوني المجرم، فزاد بذلك من معاناة هذا الشعب الأعزل المقهور أضعافا مضاعفة، بعد أن تركه الأعراب فريسة سهلة دون تسليح ينهش لحمها ويسحق عظمها بتلذذ الجيش اليهودي الجبان..

ولو كان العربان وعلى رأسهم مملكة الشر والإرهاب اليهودية في “السعودية”، جيشت مئات الآلاف من المقاتلين المتطوعين لإرهاب الصهاينة أعداء الله والأمة كما فعلت في أفغانستان وسورية والعراق، كما قال سماحة السيد في كلمته لمؤتمر الاتحاد الدولي لعلماء المقاومة الأخير، لتحررت فلسطين.. كل فلسطين، ولدخل هؤلاء الشرفاء إلى سجل التاريخ كمجاهدين أبرارا لا كمرتزقة تكفيريين..

ولو كانت مملكة الغدر والخيانة في الأردن أغمضت العين ولو قليلا على دخول السلاح إلى الضفة الغربية كما فعلت مخابراتها بشكل فاضح في سورية طوال السنوات الخمسة الماضية، لاستطاعت إيران تسليح المقاومين في أرض الميعاد بالأسلحة الخفيفة للدفاع عن النفس في وجه الآلة العسكرية الصهيونية الجهنمية، وذلك أضعف الإيمان..

فتحية إكبار وإعجاب وتقدير واحترام للشعب الفلسطيني العملاق، وهنيئا له بمقاومته الشريفة التي تجلت في أروع صورها معمّدة بالدّم الطاهر الذي بدأ يرسم اليوم الطريق الصحيح لتحرير القدس الشريف وفلسطين الحبيبة..

وإنها انتفاضة حتى النصر الذي يرونه بعيدا ونراه قريبا.. فهما طال الليل لا بد لشمس الحرية أن تشرق فوق سماء فلسطين، لتنير دنيا العرب والمسلمين الغارقة في ظلام أبدي دامس قاتم.
 

أحمد الشرقاوي - بانوراما الشرق الأوسط