هاوية "11 أيلول الفرنسي" تبدأ من الإليزيه!

هاوية
الإثنين ١٦ نوفمبر ٢٠١٥ - ٠٧:٤٨ بتوقيت غرينتش

لا هدنة للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أبعد من الثلاثاء المقبل، فحين تنتصب الأعلام بعد تنكيسها على ضحايا ليلة الجمعة الدامية، ستبدأ المساءلة التي يتهيّب الكثيرون إطلاقها، احتراماً لأيام الحداد، واستغراقاً في تجميع الأوراق لمحاسبة الرئاسة الفرنسية، عمّا بات يعتبر، همساً، تقصيراً في الدفاع عن الأمن الفرنسي الداخلي، وخطأ في السياسة الخارجية، والتحالفات الاقليمية.

واذا كانت هناك من دلالة واضحة للمشاورات التي بدأها الرئيس الفرنسي مع رؤساء الكتل النيابية والأحزاب، فهي أن لا فرصة بتجديد مشهد المسيرة الوطنية، صفاً واحداً خلف الرئيس هولاند، في ساحة الجمهورية، إثر مقتلة «شارلي ايبدو» في كانون الثاني الماضي. كما أن التضامن في مقتلة «شارلي ايبدو» لم يكن ليطرح على النقاش، لأنه لم ينظر اليه كنتيجة للسياسة الخارجية الفرنسية، أو التقديرات الأمنية. فالهجوم على «شارلي ايبدو» لا يشبه هجمات الجمعة الماضية، لأنه يندرج في الحرب السابقة، على الحرب السورية، التي دارت حول الثأر لنشر رسوم مسيئة للرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله)، وهو سجال لم يتوقف منذ بداية الالفية الثالثة.
تقدّم تصريحات الرئيس السابق نيكولا ساركوزي مؤشراً على أن لا تضامن مع سياسة الرئيس الفرنسي من دون شروط مسبقة، برغم الإجماع على تفعيل الحرب على الإرهاب. فالرئيس السابق، الذي وضع أسس السياسة الفرنسية الحالية تجاه سوريا، ودعم المجموعات المسلحة في الشمال السوري، هو من يشترط الآن على وريثه في تلك السياسة، الرئيس الحالي، أن يقطع معها، و «يعيد النظر بالسياستين الأمنية الخارجية، والتحدث الى الروس، إذ لا ينبغي أن يكون في سوريا أكثر من تحالف لمواجهة داعش».
وعلى هذا المنوال تنسج المعارضة الفرنسية، التي لم تتوقف منذ عام على انتقاد السياسة الفرنسية بالتحالف مع السعودية وقطر وتركيا ومواصلة الحرب ودعم المجموعات المسلحة من أجل إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. ويخترق اليمين الفرنسي شبه إجماع أن السياسة الخارجية الفرنسية لم تعد مفهومة في ظل تصاعد خطر البؤرة الجهادية السورية على الأمن القومي الفرنسي، مع إصرار الإدارة الفرنسية على العمل لاستنزاف الجيش السوري الذي يقاتل، هو ايضاً، البؤرة الإرهابية.
الطريق الى ليلة الثالث عشر من تشرين الثاني، ومجازرها الدامية التي أوقعت حتى الآن 132 قتيلا، و352 جريحاً، مئة منهم في حال الخطر الشديد، لم يكن سلوكها قسرياً، ولا خياراً مفروضاً على فرنسا، على ما تقوله حتى الآن إجابات السياسيين على الرئيس الذي سيذهب الى تمديد حال الطوارئ في فرنسا من 12 يوماً مبدئياً، الى ثلاثة أشهر.
ومنذ مطلع العام الحالي، تحولت زيارات الوفود النيابية الفرنسية الى دمشق أحد مظاهر التمرد على الاليزيه، ومحاولة فتح قنوات موازية للعودة الى التعاون الأمني مع دمشق.
وخلال أربعة أعوام من الحرب السورية، ساهمت المؤسسة الأمنية والديبلوماسية بالتحضير لما شهدته باريس من هجمات وراكمت القرارات والتحليلات التي قادت باريس الى ليلة الثالث عشر من تشرين الثاني. ولعبت تقديرات الاستخبارات الخارجية الفرنسية دوراً كبيراً في حض قصر الاليزيه على إسقاط النظام السوري، وتسليح بعض الجماعات، ومدّها بالمعلومات الاستخبارية، وتدريبها.
وتقول مصادر عربية إن الفرنسيين قد أخلدوا ربما الى تطمينات تركية بان فرنسا لن تكون هدفاً لأي هجوم من «داعش»، نقلتها الاستخبارات التركية الى الفرنسيين خلال العام الحالي، بعد هجمات كانون الثاني الماضي ومقتلة «شارلي ايبدو».
ولكن التطمينات والضمانات قد تكون سقطت، مع مقتل الرجل الثاني في «داعش» ابي مسلم التركماني، وهو اليد اليمنى لأبي بكر البغدادي، في غارة شنتها الطائرات الأميركية على موكب تابع له في آب الماضي قرب الموصل.
وتقول المصادر إن أبا مسلم التركماني، وهو عميد سابق في الجيش العراقي، كان صلة الوصل بين «داعش» ورئيس الاستخبارات التركية حاقان فيدان، وهو الذي فاوض معه حول إطلاق سراح الديبلوماسيين الأتراك بعدما احتجزهم «داعش» في حزيران العام 2014، بعد غزوه للموصل.
وتشكل هذه النقطة المحورية أحد مصادر القلق لدى أوساط أمنية كثيرة لخروج تنظيم «داعش» عن السيطرة، وهو أحد أسباب الحرب الاميركية عليه، وليس على سواه من الجماعات الإرهابية التي تقودها استخبارات تركية أو سعودية أو قطرية. ويشكل ذلك أحد أخطاء التقديرات الغربية والفرنسية، بالتعاطي مع ظاهرة «داعش» المعقدة، والجماعات الإرهابية العاملة في سوريا، واعتبارها تحت السيطرة، وهو ما تبيّن خطأه بسرعة، خصوصا مع تحول «داعش» الى كيان هرمي مترامي الأطراف، وواسع القدرة على التحرك، وقادر على اختراق المجتمعات التركية والغربية والانتقال من خدمتها الى تهديدها، والعمل على تحقيق أهدافه الخاصة سواء في ليبيا أو اليمن أو العراق أو سوريا، وتهديد مصالحها.
وعملت فرنسا على إضعاف قوة الدول المركزية العربية، من الشمال الافريقي في ليبيا، الى سوريا، واستنزاف الجيش السوري الذي يشكل وحده الحاجز الأخير أمام تمدد الجماعات الإرهابية، وتحويل سوريا الى بؤرة بديلة من أفغانستان، قريبة من أوروبا لشن هجمات عبر مناطق رخوة أمنياً، وحدود مفتوحة، وبحر مشترك.
وثانياً، غامر الفرنسيون برهان مزدوج على هجرة المجموعات الجهادية الى سوريا، بالتخلص من الإرهابيين في المحرقة السورية، والتسريع بإسقاط النظام السوري.
وخلال أربعة أعوام من القتال، يقول ما يسمى «المرصد السوري لحقوق الإنسان» إنه وثّق مقتل ما يقارب 36 ألف جهادي أجنبي في سوريا، وهو ما يعكس نجاحاً نسبياً في الرهان، لكن الآلاف لا يزالون يتدفقون من دون أن يسقط النظام السوري، فيما بدأ الكثيرون بالعودة. وخلال العام الماضي ذهب أكثر من 1500 فرنسي للقتال في صفوف «داعش» أو «جبهة النصرة»، وعاد بضع مئات منهم الى فرنسا.
وأخطأ الفرنسيون في تقدير قوة الأجيال الجديدة من الإرهابيين وتنظيمهم، وفي معنى قيام دولة «داعش»، إذ إن العصر الجهادي الجديد يستند الى «دولة» وإمكانيات عسكرية ومالية، يقودها تحالف ضباط جيش صدام حسين المنحل، مع نشاط متزايد للدعوة الوهابية يستند هو الآخر، الى شبكة من الجمعيات الإسلامية، والدعاة، أسيء تقدير أخطاره.
وكشفت مجزرة الجمعة الماضية عن تحوّل كبير في الحرب التي تخوضها «داعش» ضد فرنسا، اذ بينت العملية انتقال «داعش» الى تطبيق أساليب الحرب غير المتكافئة في باريس، بإرسال ثلاث مجموعات لضرب أهداف مدنية في قلب دولة تتفوق استخبارياً وتقنياً وعسكرياً عليه، وهي الأساليب ذاتها التي يطبقها في سوريا والعراق.
كما أسيء تقدير جاذبية خطاب الجماعات الجهادية، ولا سيما «داعش»، في مجتمعات «إسلامية» أوروبية مهمشة، ومأزومة، وتعاني شريحة واسعة منها من مشاكل الاندماج، وتتمتع بحساسية المتلقي الفائقة نحو الخطاب الجهادي، بعد عقدين وأكثر من هبّات مدينية وهوياتية، من دون أفق، آخرها انتفاضة الضواحي في العام 2005.
وتقوم كل الترسانة القانونية الفرنسية، حتى مع تعديل قانون مكافحة الإرهاب في الربيع الماضي، على فرض مراقبة «العائدين» من سوريا، لا محاسبتهم أو زجهم في السجون بتهم الإرهاب. وتخصص الاستخبارات الداخلية 2200 عنصر، لمتابعة العائدين، فيما تقول لوائحها انها صنفت 11 الف فرنسي يشكلون خطراً على الامن الوطني، من بينهم أربعة آلاف متطرف، و1500 من المتطرفين الخطرين.
محمد بلوط / السفير