من "شارل إبدو الى باتاكلان" : الإرهاب والإرهاب المضاد

من
الإثنين ١٦ نوفمبر ٢٠١٥ - ٠٤:٤٩ بتوقيت غرينتش

في زمن المعايير المزدوجة واختلاط المفاهيم ، يبدو التوصّل الى مقاربة صحيحة لمعنى " الإرهاب " مهمة صعبة ، إذا لم يكن ضرباً من الخيال . لا نقول هذا التفافاً على الحقيقة الساطعة وهي ان الإرهاب بكل اشكاله ومستوياته ومُسبّبيه ، هو عمل مرفوض ومستنكر ومُشين سواء وقع في بلداننا ومنطقتنا أو في أية دولة من العالم.

فالمؤكد أن ما حدث ليل الجمعة ـ السبت 14/ نوفمبر/ 2015  في العاصمة الفرنسية باريس ، لايخرج عن هذا المضمار  أبداً ، وان سقوط مئات الضحايا من المواطنين الأبرياء بين قتيل وجريح في تلك الجريمة البشعة دون وجه حق ، هو خطب مثير للأسى والحزن بشكل كبير. وان الهجمات والتفجيرات بكل تفاصيلها ووقائعها ونتائجها، عملية ارهابية مدانة جملة وتفصيلا ، وهي تعبّر عن مستوى إنحطاط الإرهابيين الذين برهنوا بفعلتهم الإجرامية الشنيعة على أنهم أفراد مجرّدون من أية مبادئ  دينية وأخلاقية وحضارية وانسانية.

بيد أننا في هذا المقام نرى أنفسنا مدعوّين كذلك الى استيعاب هذه المعطيات الاليمة على اساس من الوعي والإحاطة والشمول لئلا نقع في مطبات تصل بنا الى طريق مسدود. ولكيلا يختلط الحابل بالنابل فتصبح معرفة الحقائق أمراًعسيراً.

ويعني هذا ان علينا أن ننظر الى ما حصل في "باتاكلان"  ونقاط اخرى من باريس ، نظرة شفيفة ينبغي ان تضع النقاط على الحروف ، وأن لا نتردد في وصفه بأنه إرهاب مضادّ جاء ردّاً على مشاركة فرنسا في منظومة الإرهاب الدولي التي تتزعمه الإدارة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط تحت ذريعة " محاربة الإرهاب والتطرف"  منذ عام 2001  على أعقاب هجمات نيويورك 11 سبتمبر وحتى الآن.

لاجرم أن من العبث ان تتجاهل فرنسا دورها المفضوح في تأجيج الفوضى العارمة التي تجتاح "الشرق الأوسط" ، المبتلى دولها وشعوبها وثرواتها ، بأجندات " نظرية الفوضى الخلاقة " الأميركية الصنع ومشروع الشرق الاوسط الجديد القائم على أرضية تجزئة المنطقة بشكل أكثر  وإعادة رسم خارطتها بما يفضي الى مزيد من السيطرة على مقدرات الامة الإسلامية والعربية ، والى منح زخم أكبر من القوة والمنعة والتسلط الى الى الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين والقدس الشريف.

فمن المهم بل من الواجب على فرنسا ، الإعتراف بأخطائها الفادحة على مستوى تمزيق الأمن والسلام  الإقليميين وتسعير نيران الفتنة والإحتقان والحروب الأهلية في المنطقة ، لاسيما في لبنان وسوريا وليبيا ، اضافة الى انتقائيتها في تقييم الجرائم الارهابية في الشرق الأوسط وغرب آسيا حسب ما تشتهي معاييرها المزدوجة ، فضلا عن مؤامراتها الخبيثة في الإساءة الى النبي الأكرم محمد (ص) والمقدسات الاسلامية والدينية عبر ما نشرته  مجلة " شارل إبدو" الألحادية المستهترة، وذلك بدعاوى " حرية الرأي " والتي تسببت في الهجوم على مقر المجلة بباريس وقتل عدد من رساميها في كانون الثاني عام  2015.

وخلافا للقيم الأخلاقية والحضارية فقد استغلت باريس هذه الحادثة لتصعيد حدة الكراهية ضد المسلمين وتكريس مقولة " الإسلام فوبيا" المغرضة  في البلاد بخاصة وفي اوروبا بعامة أكثر فأكثر. كما استغلتها لاحقا في صب جام غضبها واحقادها العنصرية على الجاليات الإسلامية الكبيرة التي باتت تتبرم بشكل كبير من المضايقات الأمنية والبوليسية والإستخبارية الفرنسية ضدهم.

ولقد تجلت هذه الكراهية المقيتة مؤخرا من خلال القيود الحديدية الصارمة التي طبقتها فرنسا على جمهور اللاجئين المغتربين الذين تدمّرت اوطانهم وشردتهم الحروب بالوكالة التي تنفذها داعش وجبهة النصرة في سوريا والعراق، فضاقت بهم مرابعهم بعدما تحولت الى جحيم مطلق بفعل جرائم التكفيريين وانعدام السلم الأهلي، وقد تقطعت بهم السبل ولم يجدوا مفراً سوى اللجوء الى  دول اوروبا ومنها فرنسا. بيد ان الأخيرة مارست قدراً لايطاق من الضغوط والتعسف اللاإنساني منعاً من دخول المهاجرين المغلوبين على أمرهم الى داخل أراضيها.

كما أن تناغم السلطات الفرنسية مع بعض الأفرقاء اللبنانيين المتورطين حتى النخاع في دعم الجماعات التكفيرية المسلحة وأعمالها التخريبية والإجرامية والإنتحارية ، يعطي دليلا آخرعلى  سياسة الكيل بمكيالين التي تطبقها باريس في تعاملها مع الإرهاب واسبابه وتصنيفه وفقا لإنتقائيتها المذكورة ، ولاشك في ان هذه الإزدواجية هي التي حرّضت الإرهابيين المدعومين من حلفاء فرنسا في الساحة السياسية اللبنانية على تفجير ضاحية بيروت الآهلة بالسكان المدنيين والمعروفة بأسواقها الشعبية المزدحمة على الدوام بالرواد.

من الثابت ـ إذاً ـ ان فرنسا تتحمل مسؤولية واضحة في جريمة منطقة برج البراجنة يوم الخميس  12 نوفمبر 2015 والتي راح ضحيتها نحو 300 من المواطنين الأبرياء شهداء وجرحى بفعل الجريمة النكراء التي تبنتها " داعش " ، وهذا مايتعين ان تعيه باريس بدقة ، على اعتبار ان مرتكبي جريمتي "الضاحية الجنوبية لبيروت"  و " وسط باريس " المكتظ ايضا بالناس الآمنين، هم ينتمون الى نفس تنظيم داعش الارهابي. وازاء ذلك بات واضحاً ان النار التي تضرمه فرنسا في لبنان منذ سنوات قد امتدت الى ديارها من حيث تدري أو لاتدري.

حميد حلمي زادة

كلمات دليلية :