ثورة الامام الخمیني.. نقد الذات (1)

ثورة الامام الخمیني.. نقد الذات (1)
الثلاثاء ٠٢ فبراير ٢٠١٦ - ٠٥:٣٤ بتوقيت غرينتش

الثورة الاسلامیة في ایران التي قادها الامام الراحل روح الله الموسوي الخمیني (رضوان الله علیه) لم تکن ثورة سیاسیة في منطلقاتها وغایاتها، بالمعنی المتداول في العلوم السیاسیة، بل کانت تغییرا یؤسس لرؤیة جدیدة للانسان والدین ودورهما في الحیاة.. فكانت الحوزة المكان والحاضنة التي انطلقت منها شرارة الثورة وجزء أساسي من الصراع في عملية التغيير التي قادتها.

ومن هذا المنطلق، اختزل الامام (رض) في تحرکه الکثیر من المفاهیم العرفانیة ـ الاسلامیة التي ابتعدت الحیاة الدینیة عنها خلال السنوات التي تلت السیطرة الاستعماریة (البریطانیة ـ الفرنسیة ـ الامیرکیة) لشرقنا الاسلامي، ونفذت بعض مفاهیمها وتصوراتها في مؤسساتنا الدینیة بشکل مباشر او غیر مباشر.

ومع ان المستعمر فشل في اختراق مؤسسة المرجعية الشيعية، كما حصل مع الأخوة السنة، حيث استطاع المستعمرون ان يوجدوا مرجعيات دينية مزيفة (كما هو الحال في الاسلام الوهابي الذي تدعو اليه السعودية والذي سماه الامام الخميني بالاسلام الاميركي)، لكن تأثيراته امتدت الى مؤسساتنا تحت عناوين علمية وتقدسية، ولايزال يسعى الى خلق تشيع مزيف على غرار التسنن المزيف (الوهابي).

هذه الظاهرة التي عانت منها حواضرنا العلمية والتي لايزال بعضها يئنّ من وطأتها، تجلت في:

1. الابتعاد عن الحياة الاجتماعية وحصر مهمة عالم الدين في بيان (مطلق) للحلال والحرام على مستوى العبادات والمعاملات الفردية.

2. تشكيل طبقة اجتماعية لها مواصفات محددة متعالية على المجتمع (تسميه العوام) وترتبط بعلاقات محددة ببعض شرائحه المدرّة ماليا وخاصة التجار والمزارعين!

3. ضمور في احكام العبادات ذات الطابع الجماهيري، حتى غابت ـ على سبيل المثال ـ صلاة الجمعة عن المدن والحواضر العلمية الشيعية ولا ترى الا نوادر من الفقهاء من يفتي بوجوبها!

4. تحريم العمل السياسي وجعله من المنكرات واتهام كل من يمارسه ويدعو اليه من بين طلبة العلوم الدينية، والامثلة كثيرة وتشمل جميع حواضرنا العلمية، هذا في حين انه ولوقت قريب كان علماؤنا وفقهاؤنا في مقدمة جيوش الجهاد دفاعا عن البلاد بوجه المستعمرين والغزاة، كما كانوا طلائع المناضلين في وجه الطواغيت والمستبدين وحكام الجور.. كان اقتناء مذياع او قراءة جريدة او لبس ساعة يد وحتى حذاء عادي (غير المداس) يعتبر جريمة تعاقب عليها المدارس الدينية.. في عملية استغراق غير طبيعية في موروث غير مقدس ولا شرعي يتنافى مع العقل!

5. ولعل المشكلة الاساسية التي واجهتها حواضرنا العلمية، كانت في المناهج التي ابتعدت عن اغلب العلوم السابقة واصبحت مقتصرة على الفقه واصوله، باعتبارهما العلمان الاساسيان المفضيان الى الاجتهاد، هدف الدراسة الدينية، دون التفكير بمدى تحقق ذلك (فليس كل من درس الفقه والاصول نال الاجتهاد، والمجتهدون تقل نسبتهم عن 0.1% في افضل الاحوال) وبالتالي كان هناك جيش من العاطلين الذين لا يحسنون الا حضور الدرس ولو امتد الى نصف قرن!

والمشكلة كانت.. اولا: ان تغييب العلوم الاخرى، مثل التفسير والفلسفة والكلام والحكمة حدّ من رؤية الفقيه وجامعيته المعرفية، وثانياً: اصبح الاجتهاد تكرار مكررات وترجيح آراء، فتراجع حجم القضايا المستحدثة والمسائل الاجتماعية فيه واضحت الرسائل العملية تشابه بعضها بنسب تصل الى 97%، بينما الكثير مما يواجهه المجتمع معطل النظر فيه على يد "فقهاء الحيض والنفاس" والتعبير للامام المجدد روح الله الموسوي الخميني (رض).

وهنا تكمن القيمة الاساسية لثورة روح الله (رض).. كانت استنهاضا للقيم الاسلامية الحقيقية وللاسلام المحمدي الاصيل الذي يرفع شعار "سياستنا عين ديانتنا وديانتنا عين سياستنا" (هذا الشعار هو في الحقيقة مقولة لآية الله الشهيد حسن مدرس، احد نواب المجلس الوطني الايراني (البرلمان) والذي قتله الشاه البهلوي الاول سنة 1937) حتى لو كان في السياسة اغلبية فاسدة، وحتى لو كان بين رجال الدين عصبة متاجرة، فهي من سنخ "ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"..

قيمة الثورة الاسلامية لم تكن في النتائج التي تركتها على أرض الواقع والتغييرات التي جاءت بها على صعيد السياسة والاقتصاد والثقافة.. وهي كثيرة وغير قليلة، للحد الذي عبر عنها المقبور "موشيه دايان" منذ اللحظة الاولى بانها زلزال اصاب المنطقة والعالم وقد وصلت آثاره "اسرائيل".

اعود الى ان قيمة الثورة الاسلامية لم تكن فقط فيما حققته لاحقا في العراق ولبنان وفلسطين واليمن والبحرين وافغانستان.. بل في صناعة الفكرة والعودة الى الوعي واسترجاع الدور المفقود ووضع الاشياء في محلها...

لم تكن هذه المهمة سهلة، فرغم ان الثورة من حيث البناء الفكري تنتمي الى الدين وقيادتها ورموزها من صميم المؤسسة الدينية وعمقها، وان ما تدعو اليه يتصل بنسب قريب الى السلف الصالح من المجاهدين ضد روسيا القيصيرية في مطلع القرن التاسع عشر كالميرزا مجتهد، ومواجهة الاستبداد في اواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين فيما عرف بنهضة التنباك التي فجرها الميرزا الشيرازي الكبير سنة 1897 وثورة المشروطة التي دعمها اكثر من مرجع وفقيه عام 1906 وفي مقدمتهم الشيخ الملا كاظم الخراساني والسيد محمد الطباطبائي، الى مقاتلة المستعمرين الغزاة البريطانيين في الشعيبة والكوت خلال الحرب العالمية الاولى (1914 ـ 1918) وما تلاها من ثورتي النجف 1919 والعشرين سنة 1920 بزعامة المرجع محمد تقي الشيرازي.. حتى ثورة الغابة في شمال ايران وحركة تأميم النفط (بقيادة مصدق ـ كاشاني).. الا انها كانت مهمة شاقة وصعبة (ولا تزال!) بسبب هيمنة منهجية "التفكيك" على الحوزة، ليس في المجال المعرفي فقط، بل على الصعيد الاجتماعي!

اكثر من ذلك تحول بعض علماء و"فضلاء" الحوزة الى اعداء لهذا النوع من التحرك، حتى اعتى واعنف من السلطة المستبدة، لانه حسب رأيهم شق لوحدة الحوزة وتماسكها (دون ان نفهم مفاعيل هذا التماسك ولاجل اي شئ؟!) بالضبط كما اتهم الامام الحسين (ع) من قبل بشق صفوف الأمة وعدم طاعته للطاغية يزيد.. لكن هذه المرة ولصعوبة المصارحة باسم الطاغية البهلوي (رغم ان بعضهم كان يعتبر الشاه سندا للتشيع واتهم الامام الخميني بانه اصبح اداة بيد الشيوعية!) كان يجري التستر على ذلك بالعلمية والموضوعية!

لازلت اذكر حوارا على الهواء مباشرة في قناة سحر العربية سنة 2003 مع أحد هؤلاء، كان يعتبر نظرية ولاية الفقيه والاسلام السياسي الذي تتحدث به (وكلام موجه لي) وما طرحه (الامام الشهيد) محمد باقر الصدر وامثاله مجرد كلام جرائد!

لكن ما جاء به الامام الخميني (رض) على المستوى الديني وفي رؤيته لدور المؤسسة الدينية وعلماء الدين، كان هو الثورة الحقيقية، والتي اعتقد انها لازالت مستمرة.. وفق منهجية عرفانية تقوم على الانطلاق في عملية التغيير من الذات (الحقيقية والمؤسساتية) قبل مخاطبة الآخرين بها.. وقد خدمته الظروف او هو استطاع بتوفيق من الباري عزّ وجلّ جزاء لاخلاصه وبصيرته ان يحولها الى فرصة يستفيد منها في التقدم بمشروعه التغييري الرباني.. فكانت عملية نفيه الى خارج ايران وانتقاله من تركيا الى النجف الاشرف محطة اساسية لخلق معادلة جديدة في الوسط الديني، حيث جعلته سنوات المنفى بعيدا عن سطوة التقليديين في الحوزتين القميّة والنجفية، فهو خارج قم جسديا ولا يمثل الحوزة النجفية روحا، وان كان يتحرك في كليهما!

شكل لبنات مشروعه وربى واستقطب اعمدة تحركه في ايران والعالم الاسلامي خلال تلك الفترة من عمر الثورة، والتي تحتاج الى دراسات وافية لتسليط الضوء على تأثيرها في نهضة الامام (رض) ومستقبل الاسلام في المنطقة والعالم..

نعم، كان صدام الثورة الاسلامية مع المشروع الغربي وواجهته الطاغية البهلوي واميركا واذنابها، لكن المعركة الحقيقية كانت في الداخل مع الذات والنفس الدينية.. والتي لاتزال مستعرة بين نموذجين: احدهما حيّ، منتج، يقدم رؤية في الحياة والحضارة، وآخر غنوصي، تراجيدي، غير منتج، لا يقدم رؤية في العيش الانساني المشترك، لكنه يتعايش مع كل النظم السياسية على اختلاف اتجاهاتها الفكرية والسياسية ودرجة ديمقراطيتها واستبدادها!...(يتبع)

بقلم: علاء الرضائي