اردوغان ولعنة الاسد

اردوغان ولعنة الاسد
الثلاثاء ١٩ يوليو ٢٠١٦ - ٠٧:١٠ بتوقيت غرينتش

ليس واضحا بعد، أنّ فتح الله غولن هو من قاد الانقلاب الفاشل في تركيا، وقد أدان الرجل الفعل وما نتج عنه من تداعيات. وسواء جاءت الإدانة غلافًا أو كانت صادقة، فقد باتت تركيا أمام محطّة جديدة من تاريخها شديدة الحساسيّة والدقّة، مفتوحة على عوامل عديدة في استدخال نتائج الصراع في المنطقة ضمن الصراع الداخليّ وقد كان راكدًا إلى أن بدأ تدريجيًّا بالظهور وقد يكون مأخوذًا إلى انفجار أو مجموعة انفجارات.

وإذا رمنا التوصيف الدقيق، وبحسب ما نما من عدد من المراقبين المختصين، فإنّ ما حصل لم يكن انقلابًا بما تعنيه كلمة انقلاب من  معنى، والتوصيف هنا ناشئ من المعايير التقنيّة والسياسيّة واللوجستيّة، بل هو أكثر من انقلاب، إنّه بداءة حقبة تعبيريّة بصوت عال بوجه السياسات المتبعة من قبل رجب طيّب أردوغان على مستوى الداخل وعلى مستوى الصراع في سوريا وعلاقات تركيا مع روسيا وأوروبا وأميركا، ومنطلق لمسيرة تغييريّة بأطرها السلبيّة تنفجر من رحمها حروب متنقلة، تتفتّح فيها شهوات الأرمن والعلويين والأكراد في البلوغ إلى السلطة أو خلق دويلات مستقلّة.

كثيرون وصفوا الانقلاب بالفاشل، ولكنّه في حقيقته ما كان انقلابًا، بل الشرارة المرفوعة بوجه حالة تراكميّة أخذت تركيا نحو مزيد من التعثّر. وإذا شرّحنا تلك الحالة لوقفنا أمام مجموعة نقاط مؤثّرة لا يمكن المرور عنها أو أمامها مرور الكرام. فمن الأمور الجوهريّة أن تركيا في جوهرها لم تعد كتلك التي عرفت منذ أيّام مصطفى كمال اتاتورك في سربالها العلمانيّ. وما حدث بعد ذلك من انقلابات لم يبطل الجوهر العلمانيّ للدولة والجيش والمؤسّسات، حتّى وصل رجب طيب أردوغان إلى السلطة فانحرفت تركيا عن موقعها العلمانيّ إلى موقع إسلامي بل إسلامويّ متشدّد حاضن للقوى التكفيريّة المنبثّة في قلب الصراع في سوريا.

بعض العلماء اشاروا الى أنّ تركيا لو اتجهت نحو تبديل في النظام بمعنى لو اتجهت للقول بأنّ الإسلام دين الدولة من دون فرض مظاهره الحروفيّة في السلوكيات السياسيّة والاجتماعيّة لما كانت من مشكلة، فالإسلام دين الدولة في مصر وسوريا والأردن ولكن الناس تعيش بليبرالية مطلقة في نظام عيشها. الخطورة المطلقة ان تركيا تجلببت بالسلوكيات المتطرّفة أو المتبنيّة لها بحدّ أدنى، والمطلقة لها بحدّ أقصى، فاستهلكها رجب طيب أردوغان ومن رافقه من طاقمه السياسيّ، باتجاه ترميم حلم راوده وهو استعادة دور السلطان على كلّ البلدان المستعمَرَة قديمًا من قبل السلطنة العثمانيّة. لقد حلا له ذلك منذ زمن طويل، ولكن طموحه الجامح خلا من مداميك ورؤى استراتيجيّة تتيح له الامتداد السليم والحكيم، لينعكس كل ذلك على علاقته بالداخل سلبًا.

أولى العلامات السلبيّة والخطيرة، أن أردوغان قمع الإعلام الحرّ، اعتقل الصحافيين والكتاب المناوئين له وزجّهم في السجون وحاكم بعضهم بلا أسباب موجبة، فقط لأنهم معارضون. على المستوى الداخليّ برز الرجل قمعيًّا بامتياز حتى لا يخدش قلم طموحه وتفجّر صورة جموحه. ومن الصور السوداء أيضا أن أردوغان في بعض المشاهد السياسيّة المتصلة بالتاريخ ظهر متشدّدًا بوجه الأرمن فرفض الاعتذار التاريخيّ بسبب المجازر التي ارتكبتها تركيا بحقهم وبحقّ السريان آنذاك، وذهب بالإيغال أكثر في الكلام عن الحضارة السوداء مشيرا إلى الحضارة البيزنطيّة حين كانت تركيا بيزنطية والقسطنطينيّة توازي روما حجما في التاريخ القديم، وكأنه قال بأنّ المسيحيّة التاريخيّة سواء كانت بيزنطيّة أو مشرقيّة أو عربيّة لا وجود لها في التاريخ وفي الوقت عينه لا وجود لها في الحاضر الراهن والمستقبل بالحيّز التكوينيّ. من الطبيعيّ على رجل مليء بهذا الكمّ من الحقد التاريخيّ الأسود الموصول بالمستقبل مرورا بالزمن الراهن، أن يبدو متضامنا ومتبنيّا لقوى تكفيريّة في سعيها إلى الحكم، هنا وثمّة، ويتوكّأ عليها في امتداده نحو بلاد الشرق مستعيدًا حلمه بالسيطرة.

هذا الفكر الطامح مع فساد داخليّ مارسه الرجل مع بطانيته، (قصر أردوغان وحده مؤلّف من ألف غرفة تصوّروا ذلك وكل ذلك ناتج من الفساد وعلى حساب الفقراء في تركيا!!!) أدنى تركيا من الانفجار. لم يكن الحراك الدامي في شوارع أنقرة واسطنبول منطلقا لانقلاب بل لاحتراب تتشكّل فيه كلّ تلك العناصر، فتنفجر تباعا في الشوارع. وفي الحقيقة، إن المصادر توقّفت قبل هذا الحدث أمام مشهد الانفجارات في مطار أنقرة، لم تكن تلك الانفجارات طارئة بل هي مليئة بمعان وأهداف واضحة، في ظلّ مناخ الفشل السائد في جوف السياسة الخارجيّة التركيّة المهترئة وانعكاسها على الداخل بسبب الرهانات والاستثمارات الفاشلة والباطلة، وقد أمست، وبعد اكتشاف أردوغان هول الفشل، مرتبطة بسلسلة تحوّلات شاءها أردوغان لنفسه، فتموضع مع الروس، واعتذر منهم بعد إسقاطه الطائرة الحربية فوق جبل التركمان في اللاذقيّة، وقد رنوا في المقابل إلى إنقاذه. فاتصل في البداية بالرئيس فلاديمير بوتين والتقى وزير خارجيّته جاويش أوغلو بوزير الخارجية الروسيّة سيرغي لافروف، وتوصلا إلى غرفة مشتركة في سياق الحرب على الإرهاب وقمع داعش ومعظم التنظيمات الإرهابيّة، وقد كشفت بعض المعلومات أنّه بدأ بالتواصل مع النظام السوريّ فاستضافت الجزائر وفدا سوريا وآخر تركيّا، وتضيف تلك المعلومات أنّ التباحث بلغ مرحلة أوليّة من تطبيع ممكن بسبب عدد من المصالح المشتركة الجامعة، وبخاصّة بعد توغّل "داعش" في تركيّا، وقد ثبت لأردوغان بأنّ موقع الرئيس بشار الأسد راسخ في التربة السوريّة، وصلب في المواجهة، ولن يكون إلاّ جزءا من نسيج سوريا من لحظات الحسم إلى لحظات التسوية، ولم يستطع أحد الاستغناء عنه، وكما قال الزميل الدكتور وسيم بزي «فإنّ لعنة الأسد تلاحقه». وعلى الرغم من العداوة السائدة في علاقتهما فإنّ ما يجمع أردوغان بالأسد هو الرفض المطلق لوجود دولة كردية مستقلة على الحدود الفاصلة بين تركيا وسوريا والعراق.

وبعد هل إنّ فتح لله غولن مطروح ليكون جزءا في المعادلة الجديدة بحلته الإسلاميّة وهو المقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة، وهل الأميركيون أعدّوه لتلك، ليكون جزءا من معادلة جديدة ترسم لتركيا ومنها إلى الجوار أو الإقليم الملتهب والمتجه في حىن نحو تسوية سياسية مرتقبة؟ السؤال المطروح لا يحتاج حتمًا لإجابة فوريّة، والرجل استنكر ما حدث، لكن من الواضح وكما أظهرت معلومات جديّة بأنّ العلاقة بين الإدارة الأميركيّة وأردوغان ليست على ما يرام، وثمّة من علّق في السابق في الدائرة الأميركيّة، بأنّ الرهان عليه فاشل، وظهرت أقاويل تنعته بالكاذب. وتنظر بعض الأوساط إلى معاني ما حصل، مشيرة الى أنّه لعبة أميركيّة بعد الاستدارة التركيّة نحو روسيا. من المبكّر ايضا الحكم على صدقيّة هذا التحليل أو الزعم. لكن لا يسوغ أن ينظر إلى ما حدث بعيدا عن أي تأثّر وتأثير، بعيدًا عن وقائع جديدة ستنبلج وتطل محدثّة تغييرات جذريّة قد تسرّع اكثر في موعد الحسم السوريّ. لكن ما هو ملموس ولو من ضمن المعلومات الأوليّة المتكشّفة بأن تركيا تعيش حالة انشطار عموديّ كبير، وقد تكون على موعد مع انفجار خطير بدأت علاماته ترتسم من اللحظة التي نزل فيها الناس إلى الشارع.

والخلاصة، أردوغان خسر وضعف، والأسد ربح وعاد يقوى. الروس استفادوا من محاولة الانقلاب والأميركيون ربما تدخلوا في التحريض، "إسرائيل" تترقّب، والخليجيون الى أفول، والنتيجة، الداخل التركيّ دخل دائرة الخطر والتأجج. إنها أنظومة الفوضى الهدّامة المأخوذة إلى تركيا، والأردن غير بعيد عنها. ولكنّ الأساس أنّ الحسم الحلبيّ بات جاهزًا ومعظم الأطراف باتوا بحاجة إليه لترتسم خلفه معالم حقبة جديدة.

جورج عبيد - الديار