واليوم تقوم الولايات المتحدة المصابة بالعدوى بتخيير روسيا بينها وبين سوريا وإيران وحزب الله، كما جاء على لسان وزير خارجيتها، وقد تكون الإجابة في برنامج زيارته إلى موسكو، حيث غاب وزير الخارجية الروسي عن مراسم استقبال نظيره الأمريكي، كما لم يتضمن برنامج الزيارة لقاءً بالرئيس الروسي. وقياسًا، فعن ماذا كان يدل التخيير الأردوغاني لأمريكا، عن ضعفٍ أم قوة، وعن ماذا كان ينم اختيار الأمريكان للكرد، عن استهتار بالأتراك أم معرفة بتبعيتهم وضمان عجزهم عن التفلت منها، أم عن سوء تقدير.
بعد العدوان الأمريكي على مطار الشعيرات، صرح وزير الخارجية الأمريكي بأنّ "الحل السياسي في سوريا يتطلب التباحث مع الحكومة السورية"، وعاد اليوم قبيل زيارته إلى موسكو بالقول "إنه لا مستقبل للأسد في سوريا، ومهمتنا القضاء على داعش وإزالة النظام في سوريا"، وهذا لا يمكن على الإطلاق تجييره لصالح مفهوم المناورة السياسية، بل هو التذاكي المفرط حد التخبط، لذلك فعلى ترامب أن يدرك قدرته على سلب الأموال السعودية، دون الحاجة لتقديم مقابل عيني، كما حدث مع فاتورة صواريخ الـ"توماهوك" التسعة والخمسين. ويحاول النفط تصوير التصريحات الأمريكية عن انتهاء مرحلة الأسد، باعتبارها طريقًا ذات اتجاهٍ واحد لا يمكن العودة عنه، وهذا نوع من الإفراط الشديد في التمني. فمع هذه الإدارة المستجدة وسوابقها المستحدثة، لا يمكن البناء على موقف واحد، فهو قابل للتغيير في ربع الساعة الآجلة، وقد يحاجج البعض بأنّ الولايات المتحدة تحكمها مؤسسة ودولة عميقة بغض النظر عن طبيعة سكان البيت الأبيض، ولو سلمنا جدلًا بهذه النظرية أو الحقيقة، فإنّ عدوان الشعيرات وتبعاته يدحض هذا الافتراض، حيث بدا أنه "هوجة حارة" وليس فعل دولة عظمى.
ربطت الولايات المتحدة كل عدوان لاحق على سوريا، باستخدام الجيش السوري للأسلحة الكيماوية، واعتمادًا على حسن نوايا الولايات المتحدة، فلن نفترض أنها ستوعز للإرهاب باستخدام هذه الأسلحة واتهام الجيش السوري كما حدث على مدار الحرب، بينما هذا الربط الأمريكي سيتيح للإرهاب وداعميه فرصة جر أمريكا لمعاودة العدوان، بكل ما يحتمل من توسع لرقعة النار، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار التصريحات الروسية ومفاعيلها الاستراتيجية. حيث قال يوري شيفتكين، رئيس مجلس الدوما لشؤون الدفاع "أنّ بلاده لن تقوم بالرد على الولايات المتحدة إذا ما هاجمت أهدافًا سورية"، وأضاف "أن منظومة الدفاع الجوي السورية قادرة على فعل ذلك"، وهذا يعني أن الإمبراطورية الأمريكية من وجهة النظر الروسية لا تستحق المجابهة، وأنّ جيشًا في نظر البعض أنهكته سنوات الحرب السبع، قادرٌ على مجابهة بل وإذلال أعظم إمبراطورية في التاريخ بمفرده، وقياسًا فما هو مصير هذه الإمبراطورية في حال مؤازرة حلفاء هذا الجيش له، وبالمقابل ما هو مصير أتباع هذه الإمبراطورية التي تعجز عن حماية نفسها في المنطقة.
يقول أحد خبراء الدفاع الأمريكيين "لا يمكن توقع الخطوة القادمة، لأن ترامب نفسه لا يعرفها"، وقد يكون هذا الكلام صحيحًا من وجه غياب الاستراتيجية، ولكنه خطأ من أوجهٍ أخرى، فهو يستبطن انتظار الجميع للفعل الأمريكي ليبنوا عليه رد الفعل، وهذا لا يستقيم مع محور يتقن اللغات الاستراتيجية، فهو يدرك قوته القصوى كما يدرك نقاط ضعفه، كما يدرك حاجاته المؤقتة كما مصالحه الدائمة، ويعرف متى يتمترس ويتصلب ومتى يتراجع، وما الاجتماع الثلاثي المنتظر يوم الجمعة في موسكو، بين وزراء خارجية الدول الثلاث، روسيا إيران وسوريا، إلّا جزءًا من هذا الإدراك، كم أنه جزء من الإجابة الروسية على التخيير الأمريكي، وما سينتج عن هذا اللقاء سيكون تعزيزًا للتحالف على سبيل الإجابة الحاسمة. ولكن هل هذا يعني أن هذا الحلف يسعى للحرب المباشرة، الإجابة بالنفي قطعًا، لكنه بالقطع أيضًا يسعى لكسر احتكار الولايات المتحدة للقرار الدولي، كما يسعى لتكون طرفًا ندًا لا طرفًا مهيمنًا، لذلك فإنّ كل فعلٍ تقوم به الولايات المتحدة سيرتد وبالًا عليها، إن لم تدرك عاجلًا أنّ العالم قد تغير، والأهم أن تدرك أنّ سوريا انتصرت.
* إيهاب زكي - بيروت برس