شبّهوا قصته بالصراع بين مرسي والسيسي.. حكاية الملك الموحد "أخناتون"

شبّهوا قصته بالصراع بين مرسي والسيسي.. حكاية الملك الموحد
الثلاثاء ١١ يوليو ٢٠١٧ - ٠٣:٠٢ بتوقيت غرينتش

نشرت مجلة National Geographic تقريراً مطولاً على موقعها، تسرد فيه قصة الملك المصري أخناتون، أحد حكام الأسرة الثامنة عشرة، والذي ذاع صيته لانقلابه على عبادة الآلهة المصرية القديمة، وتوجيهه الاهتمام لعبادة الإله آتون.

العالم - العالم الإسلامي

البعض اعتبره ثائراً، واعتبره آخرون مستبداً، فيما اعتبره الملوك اللاحقون له مهرطقاً، بل ويشبه بعض علماء الآثار قصته بالصراع بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وغريمه السابق محمد مرسي.

نتعرف أكثر على أخناتون وإنجازاته سواء على الصعيد الثقافي أو المعماري فيما يلي:

في صباح أحد الأيام بقرية تل العمارنة، التي تقع في صعيد مصر على بُعد 200 ميل (322 كم) جنوب القاهرة، كانت هناك مجموعة من العظام الدقيقة التي تُشبه عظام العصافير مُرتَّبةً فوق طاولةٍ خشبية.

وقال أشلي شيدنر، عالم الآثار البيولوجي الأميركي، عن تلك العظام: "يوجد هنا الترقوة، والجزء العلوي من الذراع، والأضلع، والساقان السفليتان، ويتراوح عمر هذا الجزء بين عامٍ ونصف وعامين".

ويعود هذا الهيكل العظمي إلى طفلٍ كان يعيش في قرية تل العمارنة منذ 3300 عام، حين كانت هذه القرية هي عاصمة مصر.

وتأسست تل العمارنة على يد أخناتون، ملك مصر الذي سيطر، مع زوجته الملكة نفرتيتي، ونجله الملك توت عنخ آمون، على خيالنا في العصر الحديث أكثر من أي شخصية أخرى في مصر القديمة.

واستُخرِجَ هذا الهيكل العظمي المجهول من مقبرةٍ مجهولة، على عكس ما يحدث دائماً. ولكنَّ العظام برهنت على أنَّ هذا الطفل كان يعاني سوء التغذية.

وهو ما لاحظه شيدنر وبعض الأشخاص الآخرين في العظام المتبقية من عشرات الأطفال الذين كانوا يعيشون في قرية تل العمارنة.

وقال شيدنر: "يبدأ تأخر نمو الطفل بعد حوالي سبعة أشهرٍ ونصف من ولادته، أي حين تبدأ الأم في الانتقال من تغذية طفلها بالرضاعة الطبيعية إلى الأطعمة الصلبة".

ويبدو أنَّ هذا الانتقال كان يتأخر عند العديد من أطفال تل العمارنة. وأضاف شيدنر: "ربما كانت تُقرر الأم عدم وجود طعامٍ كافٍ".

"أول شخصية متميزة في تاريخ البشرية"

تمثال ضخم للملك إخناتون

 وحتى وقتٍ قريب، كان يبدو أنَّ رعايا أخناتون هم الوحيدون الذين لم يدلوا بآرائهم عن إرثه. ولكنَّ الآخرين كان لديهم الكثير ليقولوه عن الملك، الذي حكم البلاد في الفترة بين عامي 1353 و1336 قبل الميلاد.

وحاول إجراء تغييراتٍ في الدين، والفن، ونظام الحكم بمصر. وكانت معظم آراء خلفاء أخناتون عبارة عن انتقاداتٍ لاذعة لحقبته.

حتى الملك توت عنخ آمون، الذي أصبح عهده القصير موضوعاً شيقاً منذ اكتشاف مقبرته عام 1922، أصدر مرسوماً ينتقد فيه أحوال البلاد في ظل حُكم والده قائلاً فيه: "ألمَّت بالبلاد محنةٌ صعبة، وهجرت الآلهة أرضنا".

وفي عهد الأسرة الحاكمة التالية، وُصِف أخناتون بـ"المجرم" و"المتمرد"، ودمَّر الفراعنة تماثيله والرسومات التي ظهر فيها على الجدران، محاولين بذلك محو اسمه تماماً من التاريخ.

وتغيرت الآراء عن أخناتون 180 درجة في العصر الحديث، حين أعاد علماء الآثار اكتشافه. وفي عام 1905، وصف جيمس هنري برستد، عالم المصريات الأميركي، الملك أخناتون بأنه "أول شخصية متميزة في تاريخ البشرية".

ومن وجهة نظر برستد والكثير من الأشخاص الآخرين، كان أخناتون ثورياً، وبدت أفكاره، ولا سيما مفهوم التوحيد، سابقةً لعصره. ولطالما كان السجل الأثري صغيراً بما يكفي ليترك مجالاً واسعاً للتخمينات فيما يتعلق بالاكتشافات الأثرية.

وكان دومينيك مونتسيرات، عالم المصريات البريطاني، الذي ألَّف كتاباً عن أخناتون بعنوان "History, Fantasy and Ancient Egypt".

قد لاحظ أننا نجتزئ الأدلة التي نعثر عليها من العصور القديمة ونُفسِّرها وفق هوانا في أغلب الأحيان. وإننا نفعل ذلك "كي يصير الحاضر انعكاساً للماضي، مثل المرآة"، حسبما ذكر مونتسيرات في إحدى كتاباته.

ولقد عكست التصورات المعاصرة عن أخناتون كل الهويات التي يمكن تخيلها تقريباً. إذ صُوِّرَ على أنَّه كان رسولاً سابقاً للمسيح، ومناصراً لحماية البيئة ومُحباً للسلام، ومثلي الجنس وفخوراً بذلك، وديكتاتوراً مستبداً.

واعتنق النازيون والأفارقة السود صورة أخناتون بحماسٍ متساوٍ. وأدخل الأديبان توماس مان ونجيب محفوظ، والرسامة فريدا كاهلو، الفراعنة في أعمالهم الفنية. وحين كتب المُلحِّن الأميركي فيليب غلاس ثلاث أغانٍ أوبرالية عن المُفكرين الخياليين، تكوَّن ثالوث المُفكرين بالنسبة له من ألبرت آينشتاين، والمهاتما غاندي، وأخناتون.

وفقد سيغموند فرويد وعيه ذات مرةٍ أثناء مناقشةٍ محتدمة مع كارل يونغ، الطبيب النفسي السويسري، عمَّا إذا كان الملك المصري يعاني عشق أمه والرغبة في الزواج منها. (تشخيص فرويد لحالة اخناتون: كان أخناتون يُعاني عقدة أوديب قبل ظهور أوديب نفسه بألف عامٍ تقريباً).

بناة "تل العمارنة"

بقايا مدينة أخيتاتون أو تل العمارنة

ولطالما حاول علماء الآثار دحض هذه التأويلات، ولكن القطع الأساسية من الأُحجية كانت مفقودةً. وركَّزت العديد من الدراسات التي أُجريت عن تل العمارنة على ثقافة النخبة، وما تشمله من فن النحت والعمارة الملكية، ونقوشٍ من مقابر كبار المسؤولين في العصر القديم.

وتمنَّى الخبراء أنفسهم على مدار عدة أعوامٍ الحصول على فرصةٍ سانحة لإجراء دراساتٍ على الأماكن التي كان يُدفن فيها عامة الشعب، مع العلم أنَّ الفترة القصيرة لوجود تل العمارنة في بؤرة الأحداث، والتي لم تدم سوى 17 عاماً، كانت تعني أنَّ أي مقبرةٍ لن توفَّر سوى لمحاتٍ قليلة عن الحياة اليومية في العصور القديمة.

ولم يُجرَ أي مسحٍ مُفصِّل حتى مطلع الألفية الجديدة، حين أسفر إجراء مسحٍ مفصُّل على الصحراء المُحيطة أخيراً عن اكتشاف دليلٍ على وجود أربع مقابر منفصلة.

وبعد ذلك الاكتشاف، عكف علماء الآثار وعلماء الآثار البيولوجيون لحوالي عِقدٍ كامل على التنقيب عن أكبر هذه المقابر وتحليلها.

وجمَّعوا عيناتٍ من هياكل عظمية لـ432 شخصاً على الأقل، وجاءت اكتشافاتهم مُحبِطَة.

وأظهرت العينات، التي حصلوا عليها من بعض المقابر المعروف فيها وقت الوفاة، موت 70% من الأشخاص قبل أن يبلغ عمرهم 35 عاماً، ولم يتجاوز الخمسين عاماً سوى تسعة أشخاص، ومات ثلث الأشخاص قبل أن يبلغ عمرهم 15 عاماً.

وتأخرت أنماط نمو الأطفال بحوالي عامين. وعانى العديد من البالغين أضراراً في أعمدتهم الفقرية، والتي يعتقد بعض علماء الآثار البيولوجيين أنها دليلٌ على أنَّهم كان يُكلَّفون بأعمالٍ تفوق طاقاتهم، وذلك لبناء العاصمة الجديدة على الأرجح.

وفي عام 2015، استطاع فريق العلماء الوصول إلى مقبرةٍ أُخرى، تقع في شمال تل العمارنة، استخرجوا منها 135 جثةً. وقالت أنَّا ستيفنز، وهي عالمة آثار أسترالية تُشرِف على العمل الميداني في المقبرة، إنَّ العاملين سرعان ما لاحظوا شيئاً مُختلفاً في هذه المقابر.

إذ بدا أن العديد من الجُثث كانت قد دُفنت في عُجالة، وووضعت في قبورٍ ليس بها أمتعةٌ ولا أشياء لاستخدامها في رحلة البعث.

وليس هناك دليلٌ على موتهم بسبب العنف، ولكن يبدو أن التجمُّعات العائلية قد تفككت، وفي العديد من الحالات، أُلقِيَ بشخصين أو ثلاثة أشخاصٍ ليسوا على علاقةٍ ببعضهم البعض في قبرٍ واحد.

ومات معظم الأشخاص وهم صغار السن، إذ مات 92% من الأشخاص دون أن يبلغ عمرهم 25 عاماً. ومات أكثر من نصف الأشخاص حين كانت تتراوح أعمارهم بين سبعة أعوامٍ و 15 عاماً.

وقالت أنّا: "من الواضح جداً أن حالات الوفاة لم تسر وفق منحنى طبيعي، وقد لا يكون وجود محاجر الحجر الجيري الخاصة بالملك في هذه المنطقة من قبيل الصدفة.

هل كانت هذه مجموعة من العمال الذين عملوا بنظام السُخرة لأنَّهم كانوا شباباً، وظلوا يعملون حتى أفضى إرهاق العمل إلى موتهم؟"، ومن وجهة نظر أنَّا، هناك شيءٌ واضح من هذه المُلاحظات، إذ أضافت قائلةً: "إنَّ ذلك يُبدد تماماً أي شعورٍ مترسخ لدينا بأنَّ تل العمارنة كانت مكاناً جيداً للعيش فيه".

وبالنسبة لأخناتون، كانت تل العمارنة مكاناً نقياً ومثالياً إلى درجةٍ كبيرة، وكان الملك قد كتب بفخرٍ عن تأسيس العاصمة الجديدة قائلاً: "لم ينصحني أي مسؤولٍ بخصوص ذلك".

وكان أخناتون قد اختار هذا المكان، الذي كان امتداداً واسعاً لصحراءٍ جرداء تقع على مستوى أعلى من الضفة الشرقية لنهر النيل، لأنَّه لم يكن قد تلوث بعد بعبادة أي إله.

وقد يكون فعل ذلك أيضاً اقتداءً بوالده، أمنحوتب الثالث، الذي كان واحداً من أعظم بُناة الآثار، والمعابد، والقصور في التاريخ المصري.

وكان كلا الملكين، أخناتون وأمنحوتب الثالث، جزءاً من الأسرة الثامنة عشر، التي تولَّت زمام السُلطة بعد القضاء على الهكسوس، وهم مجموعة من الغُزاة أتوا من شرق البحر المتوسط لغزو شمال مصر.

وكان أجداد الأسرة الثامنة عشرة يعيشون في جنوب مصر، وبهدف القضاء على الهكسوس، استعانوا بأفكار بعض الاختراعاتٍ الحربية الرئيسية من أعداءهم، واستخدموها في جيشهم، بما في ذلك العربات الحربية التي تجرها الخيول، والأقواس المركبة.

وجعل المصريون جيشهم أكثر احترافية، وعلى عكس معظم الأسر السابقة، حافظت الأسرة الثامنة عشرة على جيشٍ قوي دائماً.

وكانا ماهرين أيضاً في الأمور الدبلوماسية، وامتدت الإمبراطورية في نهاية حقبتهما من السودان حالياً إلى سوريا. وأحضر الأجانب ثروةً ومهاراتٍ جديدة إلى الساحة المصرية، وكان لذلك تأثيراتٍ بالغة.

وفي حقبة أمنحوتب الثالث، الذي حكم البلاد من عام 1390 إلى عام 1353 قبل الميلاد تقريباً، شهد طراز الفن الملكي نقلةً نوعية، وقد يوصَف هذه الأيام بأنَّه أكثر واقعية.

بزوغ الإله "آتون"

اخناتون ونفرتيتي ومن فوقهم الإله آتون

 ومثلما رحَّب أمنحوتب الثالث ببعض الأفكار الجديدة، كان ينظر أيضاً في تاريخ الماضي البعيد. إذ دَرَس أهرامات الملوك الذين عاشوا قبله بأكثر من ألف عام، وأدخل بعض العناصر التراثية إلى مراسم الاحتفالات، والمعابد، والقصور الملكية.

واستمر في عبادة آمون، الذي كان الإله الراعي لمدينة طيبة. ولكنَّ أمنحوتب الثالث بدأ أيضاً في التأكيد على أهمية آتون، الذي كان صورةً من صور ري، إله الشمس، وصُوِّر على أنَّه قرصٌ شمسي، وهو ما يُذكِّرنا بأنماط العبادة القديمة.

ثم تولَّى ابن الملك العرش، وكان اسمه أمنحوتب الرابع، ولكن أثناء العام الخامس في ولايته، اتخذ قرارين مُهمين: أولهما تغيير اسمه إلى أخناتون، أي الروح الحية لآتون، والثاني نقل العاصمة إلى المكان المعروف حالياً باسم تل العمارنة.

وأطلق الملك على مدينته اسم أخت آتون، أي أُفُق قرص الشمس، وسرعان ما أصبح هذا الامتداد الصحراوي الخالي موطناً لحوالي 30 ألف شخص. وشُيِّدت القصور والمعابد بسرعةٍ كبيرة، وبأحجامٍ مُذهلة، إذ بُنيَ معبد آتون العظيم، الذي كان يُعد أكبر مُجمَّع لممارسة الطقوس الدينية في المدينة، على امتداد نصف ميلٍ تقريباً.

وفي الوقت نفسه، شَهِد الفن المصري ثورة. وعلى مدار عدة قرون، كانت التقاليد الصارمة تُشكِّل صحة الموضوعات المعروضة، ومقادير النِسَب، وأوضاع الرسومات والتماثيل.

ولكن تحت ولاية أخناتون، تحرَّر الفنانون من عباءة هذه المبادئ التوجيهية، ورسموا مشاهد نابضة بالحياة والحركة من العالم الطبيعي، وبدأوا في رسم أخناتون وزوجته الملكة نفرتيتي، في أوضاعٍ طبيعية وحميمية على نحوٍ غير معتاد.

وفي أغلب النقوش، يظهر الملك وزوجته وهما على وشك تقبيل أطفالهما ومداعبتهم، وقد وصل الأمر في أحد المشاهد إلى رسم الملك وزوجته وهما على وشك الذهاب إلى الفراش للمضاجعة.

ويبدو أنَّ الغرض من تصميم الرسومات التي ظهرت فيها ملامح أخناتون كان صدم من يراها، إذ كانت عبارة عن فكٍ ضخم، وشفاه متدلية، وعيون مستطيلة تُشبه عيون أرواح العالم الآخر.

وفي رؤية أخناتون، صار الدين مٌبسَّطاً تبسيطاً جذرياً. إذ كان المصريون يعبدون حينها حوالي ألف إله، ولكن ظل أخناتون مُخلصاً لإلهٍ واحد. وعَمِل هو ونفرتيتي كوسطاءٍ وحيدين بين الناس والإله آتون، ليتولوا بذلك الدور التقليدي للكهنوت.

وسُمِّيت نفرتيتي بالحاكمة المُساعدة، وبينما لم يكن من الواضح إذا كانت نفرتيتي تتمتع بسلطةٍ سياسية أم لا، كانت تماثيلها الرمزية والدينية استثنائيةً جداً بالنسبة إلى ملكة.

الثورة على الإله "آمون"

الملك تون عنخ آمون ابن الملك اخناتون

 وكان لا بد أن يهدد كل ذلك كهنة النظام القديم الذي خدم آمون. وبعد بضعة أعوامٍ في تل العمارنة، أمر الفرعون طواقم العمل بمحو جميع نقوش آمون من معابد الدولة.

ونمَّ هذا التصرف عن جرأةٍ غير معقولة، إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي يُهاجم فيها أحد الملوك إلهاً. ولكن الثورات دائماً ما تنقلب على أعظم مُلهميها، واستهلك هذا العنف إبداعات أخناتون في نهاية المطاف.

وصل كاتب National Geographic بيتر هيسلر إلى موقع معبد آتون العظيم بعد يومٍ من اكتشاف باري كيمب، عالم المصريات الإنكليزي، حيث وجد هناك قطعةً من أحد تماثيل أخناتون المكسورة.

ويعمل كيمب أستاذاً فخرياً في جامعة كامبريدج، ويُشرف على مشروع تل العمارنة، ويعمل في هذا الموقع منذ عام 1977. وتتجاوز الفترة التي قضاها كيمب في أعمال التنقيب بالمدينة ثلاثة أضعاف الفترة التي استغرقها أخناتون في بنائها.

وقال كيمب، وهو يحمل قطعةً من تمثالٍ حجريٍ منحوت، لا يظهر منها سوى الجزء السفلي من ساقي أخناتون: "لقد صُنِع ذلك بإتقان، ولم يتعرض للكسر بالصدفة".

وتشوب الموقع الأثري في تل العمارنة صبغةٌ جنائية بسبب تعرُّض العديد من القطع الأثرية للكسر عمداً بعد موت الملك المفاجئ عام 1336 قبل الميلاد تقريباً.

وكان ابنه ووريثه الوحيد هو توت عنخ آتون، الذي لم يكن عمره قد تجاوز عشرة أعوام، والذي سرعان ما غيَّر كلمة "آتون" في اسمه إلى لقب الإله الذي كان والده يكرهه، فصار اسمه توت عنخ آمون.

وترك توت عنخ آمون تل العمارنة وعاد إلى التقاليد القديمة، ثم مات توت عنخ آمون بغتةً، وسرعان ما نصَّب حور محب، قائد الجيش آنذاك، نفسه فرعون البلاد، وقد يكون ذلك أول انقلابٍ عسكري في التاريخ.

محو آثار الملك المهرطق

هدم حور محب وخلفاؤه، ومن بينهم رمسيس الثاني، المباني الملكية والمعابد في تل العمارنة. ودمَّروا تماثيل أخناتون ونفرتيتي، ومحوا أسماء الملك المُهرطِق وخلفائه من القوائم الرسمية التي تضم الحُكام المصريين.

وكانت عملية الإدانة بالنسيان (وهي حُكمٌ كان يصدر قديماً في حق من أساء للبلاد من وجهة نظر خلفائه) هذه ناجحةً جداً إلى درجةِ أنَّها كانت أحد أسباب نجاة مقبرة توت عنخ آمون من عمليات النهب التي وقعت في وادي الملوك.

 وقد تحتوي مقبرة توت على المزيد من الأسرار، فعلى مدار العام الماضي، حقَّق علماء الآثار في علاماتٍ تُشير إلى احتمالية وجود أبوابٍ سرية في جدارين بحجرة الدفن.

وفي العصور الفرعونية، اعتادت أجيالٌ من اللصوص التنقيب في مثل هذه المقابر، ولكن مقبرة توت كانت سليمةً إلى درجةٍ كبيرة، ولم تُصب بأذى. ربما نسي الناس أنَّها كانت موجودةً في هذا المكان.

ونسوا أيضاً معظم تفاصيل الحياة في تل العمارنة. وأظهرت عمليات التنقيب التي أجراها كيمب مؤخراً أنَّ معبد آتون العظيم كان قد تعرَّض للتدمير وأُعيد بناؤه في إحدى فترات العام الثاني عشر من حُكم أخناتون.

ويعود تاريخ قطعة التمثال التي عرضها عليّ إلى هذا الحدث، إذ كُسرت بأمر الملك نفسه، وليس بأمر خلفائه.

حورمحب

وقال كيمب: "من وجهة نظرنا، يُعَدُّ ما فعلوه شيئاً غريباً"، ولكنَّه فسَّر ذلك قائلاً إنَّ أخناتون استخدم هذه القطع المكسورة كأساسٍ للمعبد الجديد المُعدَّل. وأضاف كيمب: "لم تُعد هناك حاجةٌ إلى هذا التمثال، ولذلك حوَّلوه إلى أساسٍ صلب. وليس لدينا تعليقٌ على ما جرى".

ولكن الأدلة الأخرى حالتها سليمةً بدرجةٍ كبيرة. وكانت أماكن تجمُّع ومعيشة المصريين القدماء تتركز عادةً في وادي النيل، حيث شوَّهت آلاف السنين من الفيضانات وسكن المواطنين به البنية الأصلية.

وعلى العكس من ذلك، كانت تقع تل العمارنة على مستوى أعلى من مستوى النهر، حيث كان يجب أن تُسحَب مياه الشرب إلى أعلى. ولذلك، كان الموقع غير مأهول قبل حُكم أخناتون، ولذلك أيضاً هُجِر تماماً من بعده.

وحتى اليوم لا يزال بإمكانك رؤية بعض جدران المنازل الأصلية التي صُنعت من الطوب في تل العمارنة، وقطع الفخار المكسورة في كل مكان. ويمكنكم زيارة المبنى الذي يبلغ عمره 3300 عام، حيث استُخرِجَ تمثال نفرتيتي النصفي الشهير على يد فريقٍ أثريٍ ألماني عام 1912.

وأخبر كيمب هيسلر أنَّ انجذابه الأساسي كان لموقع المدينة الذي لم يطرأ عليه أي تغيير، وليس لتمثال أخناتون العملاق. ويعتقد كيمب أنَّ هناك العديد من الصفات المُعاصرة نُسِبَت إلى الملك، ويرى أنَّ محاولة استخدام كلمة "دين" لوصف بعض الأمور في مصر القديمة تُعد محاولةً "سخيفةً وضارة".

وتماماً كمعظم المُثقفين الحاليين، لا يصف كيمب أخناتون بأنه كان موحِّداً بالله. وتُعد هذه الكلمة مشحونةً جداً بالتقاليد الدينية المترتبة عليها، وفي أثناء حقبة أخناتون، استمر معظم المصريين في عبادة آلهةٍ آخرين.

ومع ذلك، لا يمكن لكيمب أن يقاوم رغبته تماماً في تخمين سمات شخصية الملك، إذ أنَّه مُعجب بقابلية عقل أخناتون لتغيير أفكاره، وقدرته على إجبار العاملين على إشباع أهوائه.

وفي معبد آتون العظيم، هناك آثار العديد من طاولات تقديم الطعام الكبيرة، والمصنوعة من الطوب الطيني، والتي ربما كانت تُكدَّس بأكوامٍ من الطعام والبخور كجزءٍ من الطقوس الدينية.

وكان عدد هذه الطاولات مُذهلاً، إذ تجاوز 1700 طاولة. وقال كيمب: "يعطينا ذلك لمحةً عن عقله، لقد كان رجلاً ذا عقلٍ مهووس". وكان إخناتون قد كتب في إحدى المرات قائلاً: "تكمن خطورة أن تكون حاكماً مُطلقاً في عدم جرأة أي شخصٍ على انتقاد أي مرسومٍ تصدره".

"مبدع رغم ميوله الاستبدادية"

وربما كان هذا الافتقار إلى المُساءلة مصدر إلهامٍ للحرية الفنية. ويُجزم راي جونسون، الذي يُشرف على مركز أبحاث شيكاغو هاوس التابع لجامعة شيكاغو، والذي يقع في الأقصر، أنَّ أخناتون كان "مُبدعاً إلى أقصى حد"، رغم ميوله المهووسة والاستبدادية.

وقال جونسون: "إنَّ الأعمال الفنية التي انتشرت في تل العمارنة لاحقاً جميلةٌ جداً، إلى درجة أنَّ جمالها قد يدفعك إلى البكاء. لقد تحررت هذه الأعمال من عباءة طراز الفن المصري التقليدي المُصطنع والمبالغ فيه.

واستخدمت طرازاً أرق بكثير، وكانت رسومات النساء، على وجه التحديد، في الأعمال الفنية شهوانيةً جداً".

واستطاع جونسون مؤخراً تجميع نقوشٍ جدارية وتماثيل مكسورة من مجموعاتٍ متناثرة في جميع أنحاء العالم. وساهم علم الرقمنة/التحويل الرقمي في تسهيل مثل هذه العمليات وتسريعها.

وأراني جونسون "شبكةً" افتراضية مكَّنته من مطابقة إحدى القطع المكسورة في مدينة كوبنهاغن الدنماركية مع قطعةٍ أخرى في متحف متروبوليتان للفنون بولاية نيويورك.

وقال جونسون: " تبتعد كل قطعةٍ عن الأخرى مسافة 4000 ميل، أي حوالي 6440 كم، ولكنّي أدركت أنَّهما مرتبطتان. ونتج عن ربطهما ببعضهما مشهدٌ مُفاجئ يُصوِّر أخناتون وهو يستعد لممارسة أحد الطقوس الدينية، ولكن مع امرأةٍ أخرى غير نفرتيتي، وهي كيا، زوجته الثانية التي لم ترتقِ لمنزلة الملكة.

تمثال لرأس نفرتيتي معروض في متحف برلين للآثار المصرية - ويعتبر من أهم مظاهر الفن في حقبة إخناتون

وشارك عددٌ قليل من العلماء في مثل هذا العمل، وبدا أن بعض العلماء الذين قابلتهم لديهم رأيٌ أخف حدة ناحية أخناتون، وقد يكون ذلك بسبب علاقته وعلاقتهم الحميمة بالفن.

وقد ثبت أن هذا هو إرث الملك الأكثر ديمومة، على الأقل حتى إعادة اكتشافه في العصور الحديثة. وسرعان ما هُجِرت مدينته وطقوسه الدينية، ولكنَّ طراز تل العمارنة الفني أثَّر على الفترات التي تبعت حكم أخناتون.

وقالت مارشا هيل، أمينة متحف متروبوليتان للفنون، إنَّ التعامل مع قطع التماثيل المكسورة في تل العمارنة أجَّج مشاعرها الإيجابية تجاه أخناتون.

وقالت مارشا: "يُحب جميع الناس الثوار بدرجةٍ ما. حين يظهر شخصٌ ما يحمل فكرةً جيدة وقوية، وتُعطي انطباعاً بأنَّ الأمور ستتغير للأفضل، لا أراه كشخصٍ هدَّام.

وبالتأكيد، لم يُجد ذلك نفعاً، ولا يُجدي في أغلب الأحيان. يظل الوقود يستعر تحت الأرض حتي تنفجر، وحينئذٍ، تكون مضطراً لبناء كل شيء مرةً أخرى".

الحياة السياسية تهدد المدينة الأثرية

وزادت ثورة مصر الحديثة من صعوبة مهمة علماء الآثار لدراسة أدلة حقبة أخناتون المبعثرة والمتناثرة. ففي شهر فبراير/شباط عام 2011، احتشدت جحافل المتظاهرين في ميدان التحرير بالقاهرة، وأجبروا الرئيس السابق حسني مبارك على التنحي بعد أن حكم مصر نحو ثلاثة عقود.

وفي عام 2012، شهدت مصر أول انتخاباتٍ رئاسية ديمقراطية، وفاز بها محمد مرسي، أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين. ولكن بعد عامٍ فقط من توليه المنصب الرئاسي، عُزِل محمد مرسي بانقلابٍ عسكري.

وفي أعقاب هذا الانقلاب، قتلت قوات الأمن المئات من أنصار مرسي في القاهرة. وبعد ذلك احتدمت المظاهرات في أنحاء البلاد، بما في ذلك مدينة ملَّوي، التي تقع على ضفاف نهر النيل بالقرب من تل العمارنة.

وفي شهر أغسطس/آب من عام 2013، هاجمت مجموعة من أنصار مرسي إحدى كنائس المسيحيين الأقباط، وأحد المباني الحكومية، ومتحف ملَّوي.

وأسفرت أعمال العنف في المتحف عن مقتل حارس المتحف، وسرقة كل القطع الأثرية المحمولة، والتي تجاوز عددها الإجمالي ألف قطعة. ومنذ ذلك الحين، تمكنت الشرطة من استعادة معظم القطع المسروقة، ولكن استغرق إعداد المتحف لإعادة افتتاحه ثلاثة أعوام.

وفي تل العمارنة، يُشكِّل زحف الأراضي الزراعية على المواقع الصحراوية خطراً أكبر من السرقة.

ولا سيما في ظل ما يجري الآن من توافر المضخات التي تُدار بالديزل، وتجلب المياه من النهر، واستصلاح المزارعين الأراضي الصحراوية، بما في ذلك بعض أجزاء المدينة القديمة التي لم تخضع بعد لعمليات التنقيب.

ومن المفترض أن الموقع خاضع لحماية الحكومة، ولكنَّ فرض النظام قد شهد ضعفاً كبيراً بعد الثورة.

وقال محمد خلَّاف، مدير مكتب الآثار في المنيا، العاصمة الإقليمية، إنَّ القانون لا يسمح لسكان القرى المحيطة بتل العمارنة سوى باستصلاح 300 فدانٍ من الأراضي الصحراوية. ثم أضاف: "ولكنَّهم استصلحوا 300 فدان أخرى من خلال الانتهاكات، وحدثت 80% من هذه الانتهاكات بعد الثورة".

وتسببت الثورة أيضاً في توقف أعمال بناء معبد آتون، وهو من أكثر المباني الفاتنة في المنيا. وصمَّمه مهندسون معماريون من مصر وألمانيا، ويبلغ ارتفاع بنيته الحداثوية التي تقع على ضفاف نهر النيل حوالي 200 قدم (60 متراً)، في شكلٍ يُذكِّرنا بشكل الهرم.

وفي جميع أنحاء مصر، يُعَدُّ أخناتون هو الفرعون الوحيد الذي لا يزال يُكرَّم بتشييد مبانٍ تذكارية.

وهذا دليلٌ على أنَّ زعماء البلاد المسلمين يُرحبّون بهوية أخناتون المشهورة بأنَّه كان موحِّداً بالله، ومع ذلك، لا يبدو إرثه قادراً على النجاة من الاضطرابات السياسية. وأُنفِقَ أكثر من 10 ملايين دولار على المتحف قبل توقف التمويل فجأةً، إذ وقع ضحيةً للانهيار الاقتصادي الذي حدث بعد ثورة يناير.

مشروع ترميم معبد آتون بتل العمارنة (مصدر الصورة: National Geographic)

وفي أحد الأيام، وجد هيسلر11 موظفاً يجلسون في غرفةٍ مظلمة، مع عدم تشغيل مُكيِّفات الهواء.

وكانت درجة الحرارة خارج الغرفة قد بلغت حوالي 41 درجة مئوية. والتقى هيسلر بمحمد شعبان، الذي عرَّف نفسه على أنَّه مدير قسم تكنولوجيا المعلومات في المتحف، واعتذر له عن ارتفاع درجة الحرارة بسبب عدم وجود تيارٍ كهربائي.

وعند سؤاله عن ماذا يفعل مدير قسم تكنولوجيا المعلومات دون وجود كهرباء.فأجاب شعبان قائلاً: "ليس لدي أي شيء لأفعله، والجميع ينتظرون أي تعليماتٍ جديدة".

وكان شعبان يبلغ من العمر 26 عاماً، وكان معظم الموظفين أصغر من ذلك، وجميعهم متعلمون، بما في ذلك أمناء المتحف، ومصممو الديكور الداخلي، وأخصائيو أعمال الترميم.

وتبلغ نسبة سكان مصر الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً حوالي 60%، وقد مثَّل الشباب الأغلبية الكاسحة من متظاهري ثورة يناير. ولكنهم دفعوا أيضاً الثمن الأغلى لفشل الثورة.

ومنذ نجاح الانقلاب العسكري، تنتهج الدولة قمعاً وحشياً ضد المعارضة، وصارت السجون المصرية بيتاً لآلاف المعتقلين السياسيين، وأغلبهم من الشباب.

ويعاني حوالي ثلث الشباب البطالة. وقال شعبان إنَّه غير مُكلِّفٍ هو والموظفين الحكوميين الآخرين سوى بالحضور إلى المكتب كل يوم والجلوس بلا عمل، مع أنَّ أعمال البناء في المنشأة قد توقفت منذ فترة.

واصطحب شعبان هيسلر في جولةٍ داخل المتحف، الذي يتكون من خمسة طوابق، و 14 قاعة عرض، ومسرح، وكانت جميع مكونات المتحف غير مكتملة، وأساسها مكشوفاً.

وسكنت مجموعة من الكلاب الضالة المتحف، وكان المكان مُكدَّساً بأكوامٍ من البلاط، وحديد التسليح، وبعض أنابيب مُكيَّفات الهواء التي اعتلاها الصدأ. وحين دخلوا المسرح، قال له شعبان: "احترس من الخفافيش". وقال إنَّ هذا المسرح سيسع 800 مقعد في يومٍ من الأيام.

السيسي والملك حورمحب

كان شعبان وهيسلر بصحبة أحد مُفتشي الآثار الشباب، وكان يُدعَى أحمد جعفر، واشتكى من أنَّ الاضطرابات السياسية عرقلت مسيرته المهنية كأمينٍ للمتاحف. ويبدو أنَّ هذا النمط أبدي، بدءاً من مقابر تل العمارنة، وحتى خيبة الأمل التي مُنيت بها الثورة، ففي كل زمانٍ ومكان، تلتهم الثورات الشباب.

وقال جعفر: "يرى بعض الناس أنَّ مرسي يُشبه أخناتون، والسيسي يُشبه حورمحب. إذ حرَّر حورمحب مصر من دولةٍ ثيوقراطية كان نموها يضعف يوماً تلو الآخر".

ثم أضاف جعفر وعلامات الأمل ترتسم على وجهه: "ومهَّد حورمحب الطريق لحقبة الرعامسة، التي كانت أعظم حقبةٍ في التاريخ المصري. وينطبق الأمر نفسه على السيسي، الذي يُؤهل مصر للعودة إلى مصاف العظماء مرةً أخرى".

ويُعد تاريخ هذا الرأي، القائل بأنَّ السيسي يؤهل مصر للعودة إلى مصاف العظماء مرةً أخرى، أقدم بكثير من السيسي، بل من أخناتون نفسه. ففي مصر القديمة، وبعد فتراتٍ من التفسُّخ والخلافات، لطالما صرَّح زعماءٌ بأنَّهم سيعيدون نهضة البلاد.

واستعانوا برموزٍ قديمة كوسيلةٍ لاستخدام أمجاد الماضي في رسم الوعود أمام شعوبهم بتحقيق إنجازاتٍ مستقبلية.

الملك حورمحب راكعاً أمام الإله آمون

وكان توت عنخ آمون قد أعلن أنَّه سينهض بالبلاد، وقد يكون حورمحب قد فعل الأمر نفسه، وتستمر الإستراتيجية نفسها حتى يومنا هذا.

فالثورات تكتسب شرعيةً إذا كانت مرتبطةً بالماضي، ولذلك، كانت أغلب اللافتات التي رُفعت في الميادين أثناء ثورة يناير مصحوبةً بصور جمال عبد الناصر، وأنور السادات.

وهذا أيضاً هو سبب انجذاب بعض الجماعات المُهمَّشة في أنحاء العالم، بدءاً من ناشطي الدفاع عن حقوق المثليين جنسياً، وحتى حركة الأفارقة، إلى شخصية أخناتون.

وفي عام 2012، بعد تولي مرسي وجماعة الإخوان المسلمين مقاليد الحُكم، مرروا دستوراً استشهد بمصطلح "التوحيد" الذي كان يؤمن به أخناتون، وعنونوا برنامجهم السياسي تحت كلمة "النهضة".

وبعد ثلاثة أعوامٍ من عزل مرسي، ارتفعت أسهم زعيمٍ آخر ذي شخصيةٍ قيادية في الجانب الآخر من العالم، وهو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في ظل رؤيته الخاصة من النهضة تحت شعار: "سنجعل أميركا عظيمة مرةً أخرى".

وفي مصر، لطالما كانت هناك جاذبية لإسقاط أحداث الماضي السحيق على حاضرنا، وإعادة صياغة العالم الفرعوني من خلال تصوراتنا الحالية.

ولكن من الجدير بالذكر أيضاً أنَّ المصريين القدماء وضعوا تكتيكاتٍ سياسية متطورة، واستمر نظامهم، في نهاية المطاف، أكثر من 3 آلاف عام. وقدَّموا لنا مفهوم الملكية المقدسة، فضلاً عن العديد من رموز السُلطة العالمية، ومن بينهم التاج والصولجان.

وغالباً ما استُغلَّت أعمال تل العمارنة الفنية في الدعاية والترويج، وصوَّرت أخناتون وهو يمنح جوائز لبعض المتملقين، ويتبختر في أرجاء المدينة برفقة حراسه الشخصيين المُطيعين.

وكتب باري كيمب عن هذه المشاهد قائلاً: "إنَّها تُمثِّل كاريكاتيراً غير مقصود للسخرية من كافة الرؤساء المعاصرين الذين ينغمسون في زخارف العروض الفاتنة".

وفي موقع معبد آتون العظيم، سألتُ كيمب عمَّا إذا كانت هذه الأنماط من التفكير والسلوك ظاهرةً عالمية على مدار التاريخ.

فأجاب قائلاً: "نندرج جميعاً تحت جنسٍ بشري واحد، ونحن مرتبطون بدرجةٍ ما تجعلنا نفكر ونتصرَّف بالطريقة نفسها. ولكن التقاليد الموضوعة منذ زمنٍ بعيد هي التي تُشكِّل المجتمعات الفردية. وهنا تكمن المسؤولية، وهي إيجاد التوازن بين الأنماط العالمية وتلك المتمايزة ثقافياً".

اخناتون بين الماضي والحاضر

ويحتفظ مشروع العمارنة، الذي يُنظِّم إجراء الأبحاث في الموقع الأثري، بمكتبه في محافظة القاهرة، ويقع في مبنى مجاور لميدان التحرير.

وقالت آنَّا ستيفنز إنَّ هذه البيئة منحتها منظوراً جديداً لرؤيتها عن الماضي. وقالت: "لقد منحني العيش خلال هذه الفترة، (وتقصد فترة صعود السيسي إلى السلطة)، الفرصة للتفكير أكثر بكثير في أخناتون، وتأثير الثورات. ولقد صُعقت بهذا الكم الهائل من الاهتمام بوجود قائدٍ قوي".

وقالت إنَّه في تل العمارنة، تحتوي مقابر كبار المسؤولين على لوحاتٍ يظهر فيها آتون والأسرة الحاكمة، ولكن حتى الآن، لم يُعثَر على لوحاتٍ مشابهة في مقابر عامة الشعب. وأضافت آنَّا: "ليست هناك إشارةٌ لأخناتون أو نفرتيتي، وكأنَّ هذا المكان ليس مكانهما".

ولاحظت آنَّا التشابه بين طريقة سير الأحداث في العصور القديمة وطريقة سيرها في العصر الحالي في ظل النخبوية التي تتسم بها السياسات.

وقالت آنَّا: "يمكنك إجراء تغييراتٍ جذرية في قمة الهرم السياسي، ولكن لا يتغير شيء أسفل القمة، ويمكنك نقل مدينةٍ كاملة إلى جزءٍ آخر في مصر، ويمكنك نقل مجموعةٍ كاملة من الناس إلى ميدان التحرير، ولكن لا شيء يتغير".

وترى آنَّا أنَّ الثورة ما هي إلا سردٍ لقصص انتقائية. وقالت آنَّا ذات يومٍ أثناء عملها في مكتبها: "يدلي أخناتون بروايته عن الأحداث"، ثم أشارت بعد ذلك إلى صورةٍ بها هياكل عظمية بإحدى مقابر عامة الشعب، وأكملت قائلةً: "ولكن هذه القصة ليست لهؤلاء الناس".

ولن تُعرَف قصصهم معرفةً كاملةً أبد الدهر، بالطريقة نفسها التي نتجاهل بها قصص حياة معظم المصريين المُعاصرين حين نُسلِّط الضوء على الشخصيات المُهيمنة في السياسات الوطنية: مثل مبارك، ومرسي، والسيسي.

وإذا واجهتنا صعوبةٌ في استيعاب المدى الكامل للتجارب الثورية خلال الأعوام الستة الماضية، فما هي احتمالية أنَّ نفهم سياسات القرن الرابع عشر قبل الميلاد فهماً صحيحاً؟

وقالت آنَّا: "هذه هي الطريقة التي تسير بها الحياة". وكانت تجلس في مكتبها بالطابق السادس في أحد المباني المجاورة لميدان التحرير، ومُحاطةً بأكوامٍ من البيانات الناتجة عن عمليات التنقيب في تل العمارنة.

ولكن بدا عليها الارتياح في ظل عدم الوصول إلى يقينٍ أساسي حول حياة أخناتون، بما في ذلك الغموض المحيط بقضية إيمانه، والرسائل التي تعنيها عظام شعبه، وكل القطع المتناثرة التي لن تجتمع مع بعضها مرةً أخرى. ثم ابتسمت آنَّا، وقالت: "ليست هناك روايةٌ واضحة حتى الآن".
 

تصنيف :