العالم - مقالات
من هذه الزاوية يُمكن القول ان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، نجح حتى الآن في أمر واحد مهم هو جعل بلاده معزولة أكثر من أي وقت مضى. يذكر مثلا العقيد المتقاعد في الجيش الأميركي لورانس ويلكيرسون الذي كان مديرا لمكتب وزير الخارجية كولن باول سابقا: ان أكثر من ٤ مليارات شخص أي اكثر من نصف الكون يعتبرون ان أميركا هي التهديد الاول لهم في العالم….
فلنطرح اذاً السؤال التالي: هل يريد ترامب أو يستطيع فعلا القضاء على النظام الإيراني، ولماذا؟
• يقول آخر تقرير لـ”معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام” ( وهو أهم مصدر لمعرفة مبيعات السلاح عبر العالم) : إن نصف مبيعات السلاح الأميركي عالميا، بيع الى الشرق الأوسط في خلال السنوات الخمس الماضية، وان السعودية باتت ثاني أكبر مستورد للسلاح في العالم. هل من مصلحة المصانع العسكرية الأميركية اذاً، انهاء السبب المُعلن لشراء الأسلحة، أي ” العدو الايراني”؟ طبعا لا.
• يقول تقرير اقتصادي أوروبي تم تداوله مؤخرا في خلال المناقشات الايرانية الاوروبية، أن أميركا لم تحصد في تاريخها وعلى نحو علني ووقح، هذا الحجم من الأموال العربية بأقل من سنة وكان أبرزها طبعا من السعودية وقطر والإمارات العربية مباشرة أو عبر صفقات تجارية وعسكرية. هل من مصلحة أميركا فعلا إبعاد الشبح الايراني، فتفقد بذلك مبرر بيعها للسلاح وحصولها على المال العربي؟ طبعا لا.
• شهدت ديون الأسر الأميركية نمواً وصل الى ٦٣ مليار دولار في خلال الربع الأول من العالم الحالي فقط، وأما حجم الديون الاميركية الشاملة فوصل الى ١٩ تريليون دولار، منها ٦ تريليون داخلية، و١،٣ للصين و ١،١ لليابان. هل تتحمل أميركا الغرق في حرب خارجية لا تعرف نتيجتها ما يهدد بانهيارات اقتصادية أميركية؟ طبعا لا.
• يحاول ترامب التوصل الى اتفاق مع عدوته كوريا الشمالية (أحد أضلع مثلث الشر سابقا بالنسبة لواشنطن). أنا أجزم أن الاتفاق سيفشل، الا إذا جاء بشروط مناسبة جدا للصين. لكن لاحظوا شيئا مهما حصل في خلال اليومين الماضيين، فما ان وقّعت بكين وواشنطن على سلسلة من الاتفاقيات التجارية، ووعدت الصين بتخفيض العجز الأميركي التجاري معها بنحو ٢٠٠ مليار دولار ( لمساعدة ترامب في النهوض من كبوته)، حتى تدهورت العلاقات العسكرية وأعلنت وزارة الدفاع الصينية عن ارسال سفن وطائرات حربية لتحذير السفن الأميركية التي انتهكت سيادة الصين بإبحارها قرب جزر متنازع عليها في منطقة بحر الصين …
• معروف أن الصين هي أكبر مستورد للنفط الايراني في العالم (نحو ٦٥٥ الف برميل يوميا)، وأن العلاقات بين البلدين تشهد نموا كبيرا. يقول السفير الايراني في بكين إن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ 37 مليار دولار خلال العام ٢٠١٧. هل من مصلحة الصين اذاً، السماح لأميركا بضرب إيران ؟ طبعا لا حتى ولو ان علاقاتها مع السعودية تفوق ٧٠ مليار دولار ، فالصين تريد التوازن وتعرف ان الرياض اقرب الى اميركا منها الى بكين.
• العلاقات الايرانية الروسية تنمو هي الأخرى على نحو استراتيجي كبير . تسيطر روسيا وايران على نحو ٣٦ بالمئة من احتياط الغاز العالمي. التبادل التجاري ارتفع في العام الماضي بنسبة ٩٨ بالمئة عما كان عليه سابقا وهو مرشح ليتخطى عتبة ١٠ مليار دولار قريبا. وعسكريا التعاون ضخم حيث سلمت روسيا ايران في الصيف الماضي منظومة صواريخ أس ٣٠٠، والدولتان متحالفتان في سوريا( باستثناء ما يتعلق بإسرائيل) كما أن التعاون النووي كبير، ذلك أن موسكو تشارف على بناء آخر المرحتلين الثانية والثالثة في محطة بوشهر . إضافة الى المحطات الحرارية، وبينها مثلا المعمل الحراري في بندر عباس بتكلفة تفوق مليار وستمئة مليون دولار.
يعمل البلدان كذلك على تكثيف الحوار من أجل إقامة منطقة تبادل حر بين ايران والمجموعة الاقتصادية الاوراسية والتي تضم روسيا وبيلوروسيا وكازخستان وأرمينيا وقرغيزيا. هما يستعدان ايضا لحفر قناة ملاحية تربط بين بحر قزوين والخليج ( الفارسي)… هل من مصلحة روسيا في صراعها الدولي مع أميركا، اضعاف ايران ؟ أكيد لا.
• الى الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي سيتعرض لها الاتحاد الاوروبي اذا ما سار خلف أميركا في العقوبات على ايران، فان الدول الاوروبية شعرت باهانة كبيرة من قبل ترامب ليس فقط بالنسبة للانسحاب من الاتفاق النووي، ولكن أيضا بسبب انسحابه من اتفاقية المناخ الدولي، وفرضه رسوما جمركية على استيراد بضائع أوروبية، وتهديده بعقوبات ضد الشركات الاوروبية. هل من مصلحة أوروبا اذا الرضوخ لرغبات ترامب حيال ايران ؟ أكيد لا . فهذا رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك يقول قبل أيام: ” مع أصدقاء كدونالد ترامب، لسنا بحاجة لأعداء” ، تماما كما أن رئيس الحكومة الاوروبية جان كلود جونكر يقول :” لا تريد أميركا التعاون مع باقي العالم، وهي تتخلى عنهم بعنف منقطع النظير” … لذلك بدأت دعوات جدية وبينها فرنسية وألمانية تذهب باتجاه المطالبة بالابتعاد عن ترامب وسياسته التدميرية.
• العلاقات التجارية بين إيراني وتركيا ستقارب ٣٠ مليار دولار والبلدان يتبادلان التجارة بالعملتين المحليتين وتعملان على بطاقات مصرفية موحدة. والعلاقات الأمنية والسياسية بينهما تخطت كل المتوقع في الفترة التي أعقبت محاولة الانقلاب على اردوغان ( رغم بعض التباين المستمر في بعض الوضع السوري وليس كله). والدولتان تجتمعان مع روسيا تحت مظلة استانا وغيرها لتنسيق كل المراحل المقبلة . هل من مصلحة تركيا المختلفة مع أبرز دول الخليج ( الفارسي) ومصر الان السماح باضعاف ايران؟ طبعا لا .
• ارتفعت صادرات ايران النفطية الى الهند لتصل في نيسان الماضي الى اكثر من ٦٤٠ الف برميل يوميا، ويؤكد القائم باعمال السفارة الإيرانية في الهند مسعود رضوانيان رهقي إن عملية تصدير النفط الإيراني إلى الهند لن تتغير بإنسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مشيراً إلى ضرورة عدم تأثر مشروع التعاون المشترك بين البلدين في ميناء جابهار بالقرار الأمريكي.. هل من مصلحة الهند، رغم علاقاتها القوية مع "إسرائيل"، ضرب ايران؟ أكيد لا .
هذا هو مشهد المصالح العالمية حاليا مع ايران، ناهيك عن أفغانستان وباكستان ودول آسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين. فهل يمكن لترامب ضرب كل هذه المصالح عرض الحائط والقيام بمغامرة ضد ايران؟ طبعا لا، خصوصا أن لدى ايران قدرات عسكرية كبيرة واخطبوط من الحلفاء في المنطقة مستعدون للتحرك.
الواقع أن الرئيس الأميركي الذي يواجه أجهزة الاستخبارات والإعلام والقضاء في بلاده، مرشح لنكسة انتخابية كبيرة في الانتخابات النصفية لمجلس الشيوخ. وحليفه بنيامين نتنياهو يترنح على عرش الفضائح وأمام القضاء، وفي السعودية وإذا صدقت بعض المعلومات الأخيرة فان قصة الطائرة المسيرّة عن بعد والتي حلّقت فوق قصر الأمير محمد بن سلمان قبل ان يتم اسقاطها بالرصاص الكثيف لم تكن أمرا عابرا…
لا شك أن نتنياهو يريد جر أميركا لحرب مع ايران بذريعة حضورها القوي في سوريا . ولا شك ايضا أن بعض دول الخليج رفع مستوى الضغط العسكري والسياسي والاقتصادي على ايران بغية التخفيف من دورها المتعاظم في دول عربية…..
لكن صدقوني، أن الهم الأول لترامب، هو جلب المال ثم المال ثم المال الى بلاده، وهو ومن منطلق تاريخه كرجل أعمال ناجح، لن يتردد في أي صفقة، تجلب المال دون حرب..هو يعرف تماما أن الحرب مع ايران ليست نزهة، ولا يهمه مطلقا مصلحة الخليج ( الفارسي ) أو أي دولة عربية أخرى… لذلك أعتقد أن أقصى ما سيفعله هو الاستمرار بالضغط عبر الأراضي السورية والعقوبات على ايران وحزب الله وحلفائهما ، والاستمرار بتغطية الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية التي يبدو أنها هي الأخرى لن تكون نزهة في الأشهر القادمة …
ان العالم مضطر لتمرير مرحلة معقدة، حتى انتهاء ولاية ترامب، التي ربما ستصبح أقل صخبا على المستوى الخارجي بعد تكبيله بقضايا الداخل. لذلك ومن منطلق كوني عربيا وحريصا على هذه الأمة، لا أنصح أي دولة عربية بالاعتماد كثيرا على أميركا و"إسرائيل"، فالدولتان غالبا ما تتخليان عن حلفائهما عند أول منعطف… ترامب عابر وايران باقية، فلماذا لا نبحث عن تفاهمات معها بدل الوهم بتدميرها؟ أليس ذلك أقل كلفة، وأكثر واقعية ؟ الم تتخلى أميركا عن حلفائها حين تفاهمت مع طهران؟ متى نتعلم أن السياسات الدولية مصالح لا عواطف ولا وعودا واهية .
سامي كليب / شام تايمز
109-1