العالم - مقالات وتحلیلات
ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، أو العداء للمسلمين في أوروبا والعالم الغربي عموما، ليست جديدة، ولكن الجديد أنها بدأت تأخذ طابعا إرهابيا مسلحا، وتنتقل من البيانات والكتابات التحريضية وتدنيس المقابر، إلى الهجمات الدموية، ومن الأعمال الفردية أو المحدودة، إلى الأعمال المنظمة والمؤطرة أيديولوجيا ومؤسساتيا.
التطور الأخطر الذي كشفت عنه مجزرة المسجدين أيضا، هو أنها يمكن أن تكون قمة جبل الثلج، فهناك منظومة تتضخم في ظل التركيز الغربي على ظاهرة “الإرهاب الإسلامي” وإلصاق هذه التهمة بالمسلمين وحدهم، وتصوير المجتمع الغربي على أنه الضحية.
برينتون تارانت منفذ المجزرة المذكورة ارتكب جريمته بعد تحضير جيد، وتحت وقع الموسيقى، واستخدام آلة تصوير توثق كل خطواته، من باب بيته حتى اقتحام المسجد وإطلاق النار على المصلين، والإجهاز عليهم الواحد تلو الآخر.
***
أيديولوجية هذا العنصري الإرهابية وثقها في رسالة من 73 صفحة، كشف فيها أنه ينفذ هجومه الدموي دفاعا عن العرق الأبيض، وثأرا لضحايا هجمات نفذها المسلمون في أوروبا، وانطلاقا من العداء للمهاجرين وتزايد أعدادهم بشكل كبير يهدد المجتمعات الغربية البيضاء، ويعتبرهم محتلين وغزاة ويجب القضاء عليهم.
كان لافتا أن القدوة التي يقتدي بها هذا الإرهابي المجرم هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومجموعة المحرضين الإعلاميين الذين يروجون لعنصريته البغيضة، داخل الولايات المتحدة وخارجها، في إطار منظومة من دور النشر، ومواقع قوية على وسائل التواصل الاجتماعي.
صحيح أن الحكومات الغربية تدرك خطر هذه الجماعات العنصرية على أمن واستقرار بلدانها، وتؤكد على المساواة في المواطنة، وحماية المهاجرين وأرواحهم ومصالحهم بالتالي، ولكن الخطورة تكمن في تنامي الأحزاب والمنظمات والأيديولوجيات التي تشكل الحواضن لهؤلاء، والنتائج التي يمكن أن تترتب على أعمالهم هذه التي يصنفونها في إطار الانتقام والثأر، في تحد واضح للحكومات.
الرئيس ترامب هو المنظر والأب الروحي لهذا الفكر الإقصائي الدموي الذي يوفر له الدعم، والغطاء الرسمي، ليس فقط عندما منع مواطني سبع دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة، وإنما أيضا عندما رفض، وبكل وقاحة، وصف منفذ مجزرة نيوزيلندا بالإرهابي، وقدم تعزية “باهتة” لأهالي ضحاياها.
هذه المجزرة تقدم هدية قيمة للجماعات الإسلامية المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم “داعش” “القاعدة”، وتسهل عمليات التجنيد التي ستتصاعد لآلاف الشبان المحبطين والمستهدفين من قبل اليمين العنصري في الدول الغربية.
سيطرة قوات سورية الديمقراطية على مدينة الباغوز آخر جيوب تنظيم “داعش” في شرق الفرات، قد لا تكون نهاية هذا التنظيم، وإنما انتقاله من مرحلة التمكين ودولة الخلافة إلى مرحلة العمل السري وما تعنيه من التركيز على الأعمال الإرهابية الأقل كلفة، والأكثر دموية وتأثيرا، فالبيئة الحاضنة لهذه الجماعات والمنظمات المتطرفة، والأسباب التي أدت إلى ظهورها بالقوى التي ظهرت بها خلال السنوات الخمس الماضية، وأبرزها التدخلات العسكرية الغربية، والتهميش والإذلال، والطائفية، وغياب الحكم الرشيد، ما زالت موجودة.
***
الحكومات الغربية ارتكبت جريمة كبرى عندما “تساهلت” تجاه ظاهرة “الإسلاموفوبيا” ولم تتخذ الإجراءات القانونية المطلوبة لمواجهتها، مثلما تعاطت مع ظاهرة “العداء للسامية”، ولا يمكن أن ننسى كعرب ومسلمين تصريحات بوريس جونسون، وزير الخارجية البريطاني السابق، التي تطاول فيها على المسلمات المنقبات عندما وصفهن بـ”صناديق البريد”، ولا تصريحات ترامب التي أدلى بها أثناء زيارته للندن وحذر فيها الحكومة البريطانية بقوله “الهجرة بدأت تغير النسيج الاجتماعي في الدول الأوروبية، ويجب التعامل بسرعة معها”، وأضاف “الإسلام يكرهنا”، ونسي أن أول من غير النسيج الاجتماعي للشعوب هم المهاجرون والغزاة البيض الأوروبيون الذين غزو أمريكا الشمالية وأبادوا سكانها الأصليين وقتلوا عشرات الملايين منهم.
مؤسف أن تلتزم الحكومات الإسلامية في معظمها الصمت تجاه اتساع نطاق ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، ولا تقدم على أي تحرك حقيقي لحث نظيراتها الغربية لمحاربتها، ووضع حد لانتشارها وهي التي لبت دائما النداءات الغربية، والأمريكية تحديدا لمواجهة الجماعات الإسلامية المصنفة على قوائم الإرهاب.
مجزرة مسجدي “كرايس تشيرش” النيوزيلندية ربما تكون الأولى من حيث ضخامة عدد الضحايا، والحقد العنصري الذي كشف عنه منفذها، ولكنها قطعا لن تكون الأخيرة، في ظل وجود زعماء غربيين لا يتورعون عن إظهار كل أنواع الكراهية للمسلمين على رأسهم زعيم اسمه ترامب، يحظى بصداقة ودعم طابور طويل من القادة العرب والمسلمين.
راي اليوم-عبدالباري عطوان