العالم- فلسطين
واجه المزارع الغزي محمد سليمان القرا قبل انطلاق معركة السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مخاطر يومية متكررة خلال عمله على محاولة الوصول إلى أرضه الزراعية في بلدة خزاعة القريبة من السياج الفاصل، جنوبي القطاع المحاصر، بسبب وجود روبوت يطلق النار بصورة آلية باتجاه المزارعين والسكان المحليين حال وجودهم بمحاذاة السياج.
وأطلق السكان اسم "برج الرشاش الآلي" على الروبوت الذي يتخذ شكل قبة ومزود بكاميرات مراقبة ومعدات رصد إلكترونية، وأعلاه سلاح رشاش ثقيل، وبنادق قنص تتحرك بشكل آلي، ويعد واحدا من بين 22 موقعا مشابها عملت عبر نظام الذكاء الاصطناعي، وامتدت من مدينة رفح جنوباً، وحتى مناطق بيت لاهيا وبيت حانون في أقصى شمال القطاع، كما يقول الرائد أحمد عثمان، المتخصص في دراسة أنواع الأسلحة والذخائر ومدير دائرة الشؤون الفنية في إدارة الأدلة الجنائية وهندسة المتفجرات بشرطة غزة، إضافة لتأكيدات مصدر مطلع في المقاومة، رفض الكشف عن هويته، كونه غير مخول بالتصريح للإعلام.
وبينما كان المزارع القرا محظوظا بالنجاة، إلا أن 40 فلسطينياً، بينهم 11 مزارعاً، قتلتهم الروبوتات الإسرائيلية، كما أصيب 120 آخرون، بحسب بيانات جمعها معد التحقيق عبر سؤال الأهالي في المناطق الشرقية المحاذية للسياج الفاصل وبيانات وزارة الصحة منذ عام 2017 والذي شهد بداية الظاهرة وتوسعها، وحتى نهاية العمل على التحقيق في سبتمبر/ أيلول الماضي.
ومن بين الضحايا المزارع الستيني يوسف أبو ظاهر، والذي استشهد برصاص أطلق من روبوت آلي في بلدة القرارة، وسط القطاع، إذ تقول زوجته صفية إنه كان يروي الأشجار في أرضه التي يقع بالقرب منها برج رشاش آلي، وفجأة سمعت صوت إطلاق نار لتجد زوجها غارقاً في دمائه، بينما أصيب المزارع حسن سليمان أبو سبت بثلاث رصاصات أطلقت عليه من المنظومة ذاتها الموجودة على حدود محافظة خانيونس، جنوب القطاع، ما أدى إلى استشهاده على الفور، وفق نجله أنس، الذي أضاف أن الحدود كانت خالية تماماً من أي وجود لجنود أو آليات عسكرية، وشاهد دخاناً يخرج من فوهة الرشاش المثبت على الروبوت الآلي.
أوامر تقنية بإطلاق النار دون تمييز
يقول المتخصص في أمن المعلومات وتكنولوجيا البرمجيات والمحاضر في الكلية الجامعية للعلوم والتكنولوجيا بغزة عبد الفتاح الفرا إن إسرائيل من أوائل دول العالم التي أدخلت الروبوتات التي تعمل عبر منظومة الذكاء الاصطناعي ودمجتها في التقنيات العسكرية، ومن بين أخطر منظوماتها تلك المتخصصة بالتعرف إلى الوجوه، وهي عبارة عن حواسيب متنقلة، مدعومة بقاعدة بيانات تضم صور أشخاص، وكل منها يتحول عبر خوارزمية إلى أرقام ورموز، يميزها الروبوت عبر كاميرات عالية الدقة، وخلال ثوان يحدد هوية الشخص ومدى خطورته من المنظور الإسرائيلي، ونوعية الإجراء الذي سيتخذ بحقه، سواء تركه أو قتله، ويؤكد الرائد عثمان أن مسيرات العودة شهدت خمسة حوادث على الأقل، باستهداف وقتل شبان منخرطين في العمل المقاوم، تم استهدافهم بشكل محدد بينما كانوا يقفون وسط حشود من المواطنين.
تتبع منظومات الذكاء الاصطناعي من يخطط الاحتلال لاغتيالهم
وزود الاحتلال الروبوتات بمنظومة تسمى "الذئب الأحمر"، وهو أحدث نظام يعمل من خلال مسح وجوه الفلسطينيين والتعرف إلى هوياتهم من خلال بصمة الوجه، كما يقول الرائد عثمان ومصدر في المقاومة، مشيرا إلى أن تحقيقات الدائرة تؤكد أن كافة الأسلحة والذخائر التي نشرها الاحتلال على حدود غزة من الرشاشات الثقيلة، إلى الصواريخ الموجهة عالية الدقة "سبايك-Spike"، وحتى قذائف المدفعية، وقذائف الهاون الموجهة بنظام "GBS" وأنظمة القبة الحديدية الاعتراضية، جرى ربطها بمنظومات الذكاء الاصطناعي.
ويشير الرائد عثمان إلى أن هذه المنظومة عبارة عن شبكة مترابطة تنقسم لقسمين، الأول للمراقبة والرصد عبر الكاميرات، والطائرات المسيرة، إضافة لمناطيد التجسس، وجميعها مرتبطة بالقسم الآخر وهو الأسلحة، ليتم إعطاء أوامر تقنية وتلقائية بإطلاق النار دون تمييز بين طفل أو شيخ أو مدني أو عسكري.
وأكد خمسة شبان جرى اعتقالهم لفترات متفاوتة ومن ثم إطلاق سراحهم، بعد محاولات تمت خلال الأعوام الماضية لاجتياز السياج الحدودي، شرق القطاع، أنهم شاهدوا مركبات صغيرة ذات ست عجلات مزودة بمكبر صوت وجهت لهم تحذيرات صاخبة بالتوقف والارتماء أرضاً، وعند عدم امتثالهم أطلقت النار بالقرب منهم، عبر مدفعٍ رشاش مثبَّت أعلاها، وبعد السيطرة عليهم بنصف ساعة وصل الجنود لاعتقالهم، ويعلق المختص الفرا على ما سبق موضحا أن بعض الروبوتات العسكرية تؤمن مساحات جغرافية محددة، وبعضها تكون ظاهرة أو مخفية، ويمكنها الحركة والاستدارة، وتصويب السلاح، واستخدام تقنيات الزوم لتقريب الصورة وجعلها أكثر وضوحاً، وجميعها تعمل بصورة ذاتية عبر تقنية الذكاء الاصطناعي، وكانت الأكثر انتشاراً على حدود غزة.
وبسبب انتشار تلك الروبوتات سارعت المقاومة في العاشر من مايو/أيار عام 2021، بعد ساعات من اندلاع مواجهة مع إسرائيل استمرت 11 يوماً، باستهداف المنظومات الآلية من كاميرات، ومعدات رصد، عبر عشرات القناصين، وفق خطة محكمة، أدت إلى تعطيل منظومة الذكاء الاصطناعي الإسرائيلية على حدود غزة بشكل كبير طوال العدوان، بحسب المصدر السابق في المقاومة.
وتوجد ثلاثة أهداف إسرائيلية من زيادة الاعتماد على أسلحة الذكاء الاصطناعي، وفق الرائد عثمان، وهي إصابة الأهداف بدقة عالية، وحماية الجنود من الاحتكاك المباشر مع المقاومة، إذ لوحظ في جولات التصعيد عامي 2021 و2022، إخلاء الحدود الشرقية للقطاع بشكل كامل من الجنود والآليات المأهولة، بحيث يتم الاعتماد بشكل كامل على أسلحة الذكاء الاصطناعي.
والهدف الثالث هو تتبع الأشخاص الذين يخطط الاحتلال لاغتيالهم، سواء عبر مراقبة الهواتف النقالة، أو من خلال بصمات الوجه والصوت، وغيرها من الوسائل التي يتم ربطها بأنظمة الذكاء الاصطناعي، ما يسهل قتلهم، لأن أسلحة الذكاء الاصطناعي فتاكة ولا تميز بين كبير أو صغير، كما يقول الرائد عثمان وزملاؤه في الدائرة، مشيرين إلى أن الرصاص الذي أطلق على المزارعين في شرق القطاع من عيارات عالية تصل إلى 20 مليمتراً، في حين أن عيارات الأسلحة الخفيفة والمتوسطة تراوح ما بين 6-10 مليمترات.
تغييب مبادئ القانون الدولي
دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى وقف استخدام الروبوتات القاتلة والأسلحة ذاتية التشغيل، وعرض دعماً للدول التي تستخدمها من أجل وضع تدابير جديدة، مثل "الترتيبات الملزمة قانوناً" لضمان "بقاء البشر في جميع الأوقات مسيطرين على استخدام القوة"، وهو ما يؤيده تحالف أوقفوا الروبوتات القاتلة Stop Killer Robots، والذي يقول على موقعه الإلكتروني إنه مع تزايد نزع الإنسانية من حياتنا، يعمل التحالف على ضمان التحكم البشري في استخدام القوة، وهو ما يقتضي وضع قانون دولي جديد بشأن التحكم الذاتي في أنظمة الأسلحة.
تنتهك الأسلحة ذاتية التحكم ما يُعرف بـ"شرط مارتنز" في القانون الدولي
ويتيح التقدم التكنولوجي لأنظمة الأسلحة تحديد الأهداف ومهاجمتها بشكل مستقل، وهو ما يعني سيطرة بشرية أقل على ما يحدث ولماذا، بحسب التحالف، الذي يؤكد أن "الآلات تتخذ قرارات بشأن من تقتل أو ماذا تدمر. وبالنسبة للآلات لا يوجد فرق بين (من) و(ماذا)".
وتنتهك الأسلحة ذاتية التحكم ما يُعرف بـ"شرط مارتنز" الوارد في "القانون الدولي الإنساني"، والذي ينصّ على ضرورة الحكم على التكنولوجيات الناشئة اعتماداً على "مبادئ الإنسانية" و"الوعي العام"، عندما لا تكون مشمولة مسبقاً في أحكام المعاهدات الأخرى، بحسب ما يؤكده تقرير "لبوا النداء: ضرورة أخلاقية وقانونية لحظر الروبوتات القاتلة"، الصادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش. وتضيف بوني دوورتي، والتي تعمل باحثة أولى بقسم الأسلحة في المنظمة، ومنسقة حملة "أوقفوا الروبوتات القاتلة" قائلة: "السماح بتطوير واستخدام الروبوتات القاتلة يقوض المعايير الأخلاقية والقانونية الراسخة"، وتدعو إلى ضرورة "حظر أنظمة الأسلحة الآلية قبل أن تتكاثر في العالم"، بينما يؤكد ستيف غوس، مدير برنامج الأسلحة وحقوق الإنسان في هيومن رايتس ووتش، أن "إعطاء الآلات القدرة على تقرير من يعيش ومن يموت مبالغة جسيمة في استخدام التكنولوجيا، ومن الضروري وجود سيطرة إنسانية على العتاد الحربي الروبوتي من أجل تقليص أعداد القتلى والمصابين من المدنيين".
ويكمل المحامي المختص في القانون الدولي يحيى محارب، الذي يعمل في مركز الميزان لحقوق الإنسان، قائلاً إن الاسلحة ذاتية التشغيل يجب أن تلتزم بمعايير القانون الدولي الإنساني، والمتمثلة في الإنسانية، والتمييز، والضرورة العسكرية، والتناسب.
ويتحمل من يدير ويبرمج الأسلحة التي تعتمد الذكاء الاصطناعي المسؤولية الجنائية عن أي انتهاك فيه مخالفة للالتزامات المفروضة على سلطات الاحتلال الإسرائيلي في القانون الدولي الإنساني، كما يقول محارب، مضيفاً أن الأمر منصوص عليه في الفقرة "أ" من البند الأول للمادة الثالثة من اتفاقية جنيف الرابعة، والتي "تحظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب، وعدم الالتزام تتبعه الملاحقة والمحاسبة وفقاً للقواعد القانونية الدولية للقانون الدولي الإنساني، وميثاق روما المكون لقانون المحكمة الجنائية الدولية".