شيريدان و"حل المشكلة الهندية": التجويع كسلاح إبادة
في عام 1868، أي قبل أقل من 160 عاماً، وفي ذروة الحرب الأمريكية لإبادة السكان الأصليين في أمريكا الشمالية، المعروفين باسم "الهنود الحمر"، كتب الجنرال الأمريكي فيليب شيريدان رسالة رسمية إلى أحد زملائه في الجيش، يشرح فيها فكرته حول "حل المشكلة الهندية". الجنرال، المعروف باستراتيجية الحرب الشاملة، اقترح أن السبيل الأفضل لإخضاع السكان الأصليين هو إفقارهم من خلال تدمير مخزونهم من الطعام، ثم نقلهم إلى الأراضي التي خصصتها لهم الحكومة الأمريكية.
تجويع السكان الأصليين: من السياسة إلى التطبيق
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اعتمد الجيش الأمريكي سياسة التجويع كأداة لإبادة السكان الأصليين وكسر إرادتهم، ثم نقل من تبقى منهم من أراضيهم التاريخية التي عاشوا فيها آلاف السنين إلى مناطق معزولة خصصتها الدولة لهم.
شاهد أيضا.. إرتفاع شهداء التجويع في غزة إلى 122 فلسطينيا بينهم 83 طفلا + فيديو
غزة 2025: تكرار لجرائم القرن التاسع عشر
ما قاله الجنرال شيريدان آنذاك وطُبّق ضد السكان الأصليين، يتكرر اليوم، في عام 2025، في قطاع غزة. فقد عبّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مراراً منذ عام 2023 عن فكرة نقل السكان الفلسطينيين من أرضهم، في ظل تصعيد عسكري دموي.
ثلاثية الإبادة في غزة: القتل، التدمير، التجويع
يواجه الشعب الفلسطيني في غزة حملة إبادة ممنهجة تأخذ ثلاثة أشكال رئيسية:
1- القتل الجماعي عبر الحديد والنار، وتدمير القطاع الصحي ومنع دخول الأدوية والمواد الطبية.
2- تدمير البنية التحتية بشكل ممنهج، لتحويل غزة إلى منطقة غير صالحة للحياة.
3- التجويع، سواء عبر منع دخول المواد الغذائية أو من خلال تدمير الأراضي الزراعية، وشبكات المياه، والبنية التحتية للإنتاج الزراعي.
من الحصار إلى الإبادة: بداية مرحلة التجويع الشامل
إنها حملة تجويع منظمة، بدأت مع فرض الحصار الكامل على القطاع منذ 9 أكتوبر 2023، حين قطعت قوات الاحتلال الوقود والكهرباء والماء والطعام، وفق ما أعلنه صراحة وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، يوآف غالانت، الذي قال: "لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا غاز… كل شيء مغلق" بالنسبة لمن وصفهم بـ"الحيوانات البشرية".
سياسة "الحمية القسرية": تجويع بلا موت
لكن الواقع أن هذه السياسة ليست جديدة. تعود جذورها إلى عام 2006، حين بدأت حكومة الاحتلال بتطبيق سياسة "الحمية القسرية"، والتي تهدف إلى تقليل عدد السعرات الحرارية التي تدخل غزة بما يسمح فقط بتجنب المجاعة الشاملة، دون إيقاف المعاناة. وقد عبّر عن هذه السياسة مستشار رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، آلا دوف ويسكلاس، بقوله: "نريد وضع الفلسطينيين على حمية غذائية، دون أن يموتوا جوعاً."
شاهد أيضا.. قصة الشابة الفسلطينية "براء": إرادة حياة في وجه الإبادة!
غزة 2025: تجويع حتى الموت
طوال أكثر من 19 عاماً، نفّذت إسرائيل سياسة تدريجية لتجويع سكان غزة، وصولاً إلى عام 2025 حيث دخل القطاع في مرحلة التجويع حتى الموت، وبدأت النتائج تظهر نهاية 2023. عندها أغلقت سلطات الاحتلال معابر المساعدات بالكامل، واستخدمت التجويع كسلاح مباشر. اختفت المواد الغذائية من الأسواق وارتفعت أسعارها بشكل خيالي. وفي ديسمبر 2023، كشف تقرير برنامج الأغذية العالمي أن 9 من كل 10 عائلات في شمال القطاع قضوا يوماً كاملاً بلا طعام، وأن ثلث العائلات في الجنوب واجهت المصير ذاته.
التجويع كعقيدة سياسية: حين يتحول الجوع إلى أداة سيادة
الجوع في غزة ليس أثراً جانبياً للحرب، بل هو استراتيجية عسكرية وسياسية واضحة. الهدف النهائي هو تهجير سكان القطاع بعد قتل أكبر عدد ممكن منهم. هذا ليس اتهاماً نظرياً، بل حقيقة صرّح بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تحدث مراراً عن وجوب "نقل أهل غزة إلى مكان أفضل لهم"، بحسب تعبيره.
السيادة عبر التجويع: قراءة فكرية في أدوات الإبادة
في السياق نفسه، يُظهر الاحتلال أن مسألة الجوع والموت في غزة تتجاوز الجانب الإنساني، لتصبح مسألة قرار سيادي استعماري، كما يشرح المفكر الكاميروني جوزيف أشيل مبيمبي، الذي يرى أن جوهر السيادة يكمن في القدرة على تحديد "من يعيش ومن يموت". أما الكاتب الهندي بارث شارما، فيصف الفلسطينيين في غزة بـ"الأموات الأحياء"، في ظل هذا التحكم الممنهج في حياتهم وموتهم.
علي القادري: تسليع الموت كاستراتيجية استعمارية
ما يجري في غزة اليوم هو تسليع للموت، وهو ما تناوله المفكر العربي علي القادري بوصفه استراتيجية استعمارية تستخدم أدوات اقتصادية لتفكيك الشعوب. التجويع في غزة ليس استثناءً، بل استمرار لمنظومة استعمارية مارست هذه السياسات على مدى قرون.
سياسة التجويع من الماضي إلى الحاضر: أمثلة عبر التاريخ
في هذه الحلقة من "جوا الصندوق"، نتناول سياسة التجويع الاستعمارية، من الماضي إلى الحاضر. نستعرض أمثلة من شعوب تعرضت لهذا السلاح، بينها شعوب عربية قُتل مئات الآلاف من أبنائها بالتجويع. كما نناقش دور الشركاء الدوليين في فرض الجوع على غزة، وفرص كسر هذا الحصار القاتل.
مجاعة البنغال: الجوع كسلاح بريطاني في الهند
من أبرز الأمثلة الحديثة: مجاعة البنغال في الهند خلال الحرب العالمية الثانية، حيث قُتل ما لا يقل عن 3 ملايين إنسان في عامي 1943 و1944، رغم وجود مخزون غذائي كافٍ. بحسب الاقتصادي أمارتيا سين في كتابه "الفقر والمجاعات": المجاعة كانت نتيجة فشل في توزيع الغذاء بسبب السياسات الاستعمارية البريطانية، وليس بسبب النقص في الإنتاج.
تشرشل والمجاعة: قرار عنصري لا أخلاقي
رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ونستون تشرشل، رفض إرسال القمح إلى الهند، وفضّل إرسال أكثر من 175 ألف طن منه من أستراليا إلى أوروبا لتخزينه، رغم أن الهند كانت في طريق الشحن الأقرب. ووصفت الكاتبة مادهوسري موخرجي هذا السلوك في كتابها "حرب تشرشل السرية" بأنه جريمة عنصرية متعمدة ضد شعب الهند.
تشرشل لم ير في ما حدث للسكان الأصليين في أستراليا أو أمريكا الشمالية شيئاً خاطئاً، بل قال إن "الهنود يتكاثرون كالأرانب"، مجسّداً عنصريته وفكرة تفوق العرق الأبيض، التي كان يتشاركها مع أدولف هتلر.
شاهد أيضا.. مراسل العالم: نساء حوامل في غزة لايجدن لقمة واحدة للأكل
السكان الأصليون في أمريكا: التجويع ومسيرة الدموع
وفي أمريكا الشمالية، استُخدم الجوع كسلاح ضد السكان الأصليين، أبرز مثال على ذلك "مسيرة الدموع" (1838–1839)، حيث تم تهجير عشرات الآلاف من قبائل الشيروكي قسراً، ومات الآلاف منهم جوعاً ومرضاً.
إبادة الجاموس: تجويع ممنهج لكسر المقاومة
كما عمد المستوطنون والجيش الأمريكي إلى إبادة ملايين من حيوانات الجاموس البري التي كانت المصدر الغذائي الأساسي للقبائل الأصلية. يقدَّر عدد الحيوانات التي أُبيدت بنحو 30 مليون جاموس، ضمن استراتيجية ممنهجة لتجويع السكان الأصليين وكسر قدرتهم على المقاومة.
وقد لخص أحد الضباط الأمريكيين هذه السياسة بقوله: "اقتلوا كل جاموس تستطيعون قتله، فكل جاموس ميت يعني هندياً ميتاً."
التفاصيل في الفيديو المرفق...