جوا الصندوق..

ضحيةٌ مُجرَّمة.. العقلية الاستعمارية من “ريكواريمينتو” الإسباني إلى حصار غزة

الأحد ١٩ أكتوبر ٢٠٢٥
٠٢:٢٠ بتوقيت غرينتش
في القرن السادس عشر، استخدم الغزاة الإسبان إعلان "ريكواريمينتو" لتبرير قتل السكان الأصليين في القارة الأميركية وفرض حكمهم، وُصف الضحايا بالبرابرة الذين يتحملون مسؤولية معاناتهم. اليوم، تتكرر هذه العقلية في حصار غزة، حيث يُحمّل الفلسطينيون مسؤولية جرائم الاحتلال، مستمرة سياسة استعماريّة في شيطنة الضحايا وتحميلهم ذنب ما يُرتكب بحقهم.

"ولكن اذا لم تنفذ هذا واخرتموه عمدا فنحن نشهد لكم انه بمعونة الله سندخل بلادكم بقوة سنشن حربا ضدكم بكل الطرق والاساليب التي نستطيع وسنخضعكم لنير وطاعة الكنسية وصاحبي الجلاله وسنأخذكم وزوجاتكم وأطفالكم وسنجعلكم عبيدا، ثم سنبيعكم ونتخلص منكم كما ينظر صاحبا الجلالة، وسنأخذ ممتلكاتهم وسنلحق بكم كل الاذى والضرر الذي نستطيعه، فيما يتعلق بالاتباع الذين لا يطيعون ويرفضون قبول سيدهم ويقاومونه ويناقضونه ونحن نحتج بان الوفيات والخسائر التي ستترتب على هذا هي ذنبكم وليس ذنب صاحبي الجلاله ولا ذنبنا ولا ذنب هؤلاء الفرسان الآتين معنا".

في أوائل القرن السادس عشر، وتحديدًا بعد سنة 1510، كان الغزاة الإسبان يوقفون على شواطئ «العالم الجديد» — أي البلاد التي صارت تُعرف لاحقًا باسم القارة الأميركية — وكانوا يقرؤون هذا النص الذي يُعرف باسم "ريكواريمينتو" (ويعني: "الطلب").

هل كان الإعلان يُقرأ باللغة اللاتينية على مسامع السكان الأصليين الذين لا يعرفون هذه اللغة؟ والهدفُ بالطبع لم يكن تواصلاً حقيقيًا مع السكان الأصليين، بل كان تبريرًا مسبقًا لكل العنف القادم، والتبرير كان يستهدف الغزاة أنفسهم؛ صك براءة يُمنَح للمجرمين قبل ارتكاب جرائمهم.

كان الغزاة الإسبان يعلنون في هذا النص أن على الشعوب التي كانوا يصفونها بالهمجية أن تقبل حكم المملكة الإسبانية وحكم بابا الكنيسة الكاثوليكية، وأن هذه الشعوب تستسلم وتغير دينها، وإلا ستتحمل المسؤولية الكاملة عن مصيرها.

كانت الشعوب تعيش على أرضها، ولم تكن تشكل أي خطر على إسبانيا أو على أوروبا أو على بابا روما، بل كانت لا تعرف أصلاً بوجود أوروبا أو الأوروبيين، ورغم ذلك منحت إسبانيا والكنيسة الكاثوليكية نفسيهما حق قتل هذه الشعوب، وقررت أيضاً أن الضحايا هم المسؤولون عن كل القتل والاستعباد والإبادة والتدمير الذي يُرتكب بحقهم.

العقلية الاستعمارية التي تعتبر شعوب المستعمرات برابرة يستحقون ما يجري لهم ويتحملون مسؤولية الجرائم التي تُرتكب بحقهم، ليست مجرد صفحة من الماضي، بل هي سياسة لا تزال حاضرة إلى يومنا هذا.
وبالحرب على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة (2023–2025) سمعنا أصداء منطق الـ"ريكواريمينتو" تتكرر بشكل مخيف. السياسة التي اعتمدها كيان الاحتلال عبر عنها الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ عندما قال إن كل الفلسطينيين في غزة مسؤولون من دون استثناء عن هجوم 7 أكتوبر، كما قال إنه لا وجود لمدنيين أبرياء هناك، فالجميع متورطون؛ ومن وقتها انطلقت أسطوانة تحميل الشعب الفلسطيني أو القوى الفلسطينية التي قررت المواجهة أو القوى التي ساندت الشعب الفلسطيني مسؤولية كل ما يرتكبه كيان الاحتلال.

تحميل الضحايا مسؤولية الجريمة يبدأ عادة بشيطنة الضحايا جماعياً، وأبرز تعبير لهذه السياسة ظهر على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت مباشرة بعد 7 أكتوبر، عندما قال إن أهل غزة ليسوا سوى "حيوانات بشرية" وأعلن فرض حصار شامل يمنع عنهم الماء والغذاء والكهرباء. ونفس النبرة شهدناها مراراً عبر التاريخ الاستعماري؛ تسميات مثل "المتوحشون" و"البرابرة" أطلقت على السكان الأصليين لتبرير التنكيل بهم وإبادتهم. في وثائق رسمية، على سبيل المثال، وصف الإسبان الأمم التي غزَوها بأنها أمم همجية، ووصف البريطانيون المقاومين في مستعمراتهم بأنهم متوحشون.

السياسة الاستعمارية على مر العصور كانت مبنية على ثلاث قواعد رئيسية: أولاً، نزع الصفة الإنسانية عن أهل الأرض لتبرير إبادتهم وتبرير كل الارتكابات بحقهم؛ والقاعدة الثانية هي تحميل أهل الأرض مسؤولية ما سيحلّ بهم سواء قاتلوا دفاعاً عن وجودهم وتحرير أرضهم أو لم يقاتلوا؛ والقاعدة الثالثة هي تيئيس ضحايا الاستعمار من خلال القول إن تكلفة أي مواجهة أكبر من قدرتهم على التحمل، وأن معيار النصر الوحيد ومعيار الهزيمة الوحيد هو من يتوجع أكثر — بمعنى أن التضحيات الكبيرة في كل معركة تُعد هزيمة وهي أيضاً دليل على العجز عن مواجهة الاستعمار، وبالتالي الأفضل لكم الخضوع والاستسلام. وفي حال قررتم المواجهة نرجع للقاعدة الثانية وهي أنكم المسؤولون عن كل ما سيلحق بكم. حتى في حال قررتم عدم المواجهة أيضاً، فإنكم بسبب طبيعتكم المتخلفة والهمجية والبربرية مسؤولون عن كل ما سيصيبكم عندما يقرر المستعمر إبادةَكم أو يتخلص من وجودكم من خلال طردكم من الأرض.

صحيح أنه حدث تغيير كبير في القرن العشرين، مثل إصدار منظومة القوانين الدولية ومنها القانون الدولي الإنساني الذي يجرّم أي عقوبات جماعية وأي استخدام غير متناسب للقوة، لكن المنظومة القانونية باتت تقريباً حِكرَةً على الرجل الأبيض — على الغرب وعلى دول الشمال؛ أما شعوب الجنوب العالمي، أي البلدان العربية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، فقد بقيت عرضة لنفس السياسات الاستعمارية الاستعبادية الهمجية والمتوحشة التي تنزع الإنسانية عن الشعوب المستهدفة بالاستعمار والاستعباد وتحملها مسؤولية كل الجرائم التي تُرتكبها آليات المستعمرين.

للمزيد اليكم الفيديو المرفق..

0% ...

آخرالاخبار

الاحتلال يرتكب 7066 انتهاكا بحق فلسطينيي الضفة والقدس في نوفمبر


قتلى وجرحى باشتباكات مسلحة غرب طرابلس في ليبيا


قبائل جبل راس والعدين ومقبنة في الحديدة تُعلن النفير العام


العراق:جدل سياسي بعد إدراج حزب الله وأنصار الله على قائمة الإرهاب


تفكيك خلية ارهابية غرب العاصمة طهران


البحرية الأمريكية تؤكد انضمام مدمرة إلى قواتها في منطقة البحر الكاريبي


بقائي: العقوبات القسرية أحادية الجانب جرائم ضد الانسانية


بالفيديو ... موكب سيارات يرفع أعلام حزب الله يجوب شوارع في بغداد​


إيرواني: الإجراءات القسرية أحادية الجانب انتهاكٌ لحقوق الإنسان والحق في التنمية


الرئيس بزشكيان يغادر محافظة كهكيلويه وبوير أحمد عائدا إلى طهران