شغف الشابي بالأدب الفارسي
وفي حوار مع قناة العالم ببرنامج "ضيف وحوار" وحول سبب تخصصه باللغة الفارسية والدوافع وراء اختيار اللغة الفارسية والأدب الإيراني، أشار الشابي إلى أنه منذ الصغر كان مغرمًا بالشعر، واستطاع أن يطلع على نماذج شعرية من الأدب الفارسي من خلال مكتبة والده التي كانت تزخر بالمؤلفات المتنوعة، ومن بينها الترجمات العربية للشعر الفارسي والأدب الفارسي بصورة عامة.
بداية التعلم والتخصص
وقال الشابي: "كنت قد اطلعت في ذلك الوقت على أشعار عمر الخيام وجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي، فحفزني كل ذلك وأنا في تلك المرحلة المبكرة على الانصراف أكثر للاطلاع على هذا الأدب. وترسخت في ذهني فكرة مفادها أنه لا بد من تعلّم اللغة الفارسية مباشرة حتى أنعم بما في شعرها وأدبها من خيال منسرح وصور بديعة ولغة جمالية".
التأثر بالنصوص الفارسية العظيمة
وأضاف: "كان الأمر كذلك عندما أنهيت المرحلة الأولى من التعليم الزيتوني في توزر - مسقط رأسي - وانتقلت إلى تونس وأكملت تعليمي في جامع الزيتونة. وقررت، كما قررت من قبل وأكدت، أن ألتحق بجامعة القاهرة في كلية الآداب تحديدًا لدراسة اللغة الفارسية، دون أن أفكر في مستقبلي بصورة خاصة. فكان الشغف والانجذاب والتعلق بهذه اللغة كلها دوافع جعلتني لا أفكر إلا في معرفة اللغة الفارسية ودراستها، وكذلك كان الأمر".
وبسؤاله كيف وجد هذه اللغة عندما درسها وتخصص فيها؟
لفت الشابي قائلاً: "هذه اللغة عشقتها من خلال صورها، ثم عشقتها من خلال أصواتها ومن خلال ما ترسخ فيها. ولأول مرة، كما هو معروف في الدراسات اللغوية، تتداخل لغة آرية وتتشاكل مع لغة سامية، فأبدع هذا التداخل لغة جميلة رائعة قال عنها المستشرق الإنجليزي أربيري إنها 'أعظم لغة في الشرق'. وهي حقيقة لغة ممتعة، هذه اللغة الفارسية".
شاهد أيضا.. تونس تحيي ذكرى استشهاد السيد نصر الله
وحول إتقانه للغة الفارسية وكيف أوصلته إلى عالم الآداب والأشعار الفارسية؟
قال الشابي: "نحن ندرس في كلية الآداب في قسم الدراسات الشرقية - الفرع الإسلامي - اللغة الفارسية بعمق. نحن نتعلمها ولكن نتعلمها من خلال النصوص المؤسسة العظيمة لجلال الدين الرومي وللعطار وللرودكي ولجامي وسعدي وحافظ وأنوري. إذن كان هناك تشبّع من هذه اللغة من خلال النصوص العظيمة المؤسسة".
وعن مواطن القوة والثراء في الأدب الفارسي، رأى الشابي بأنه شعر غنائي ينطلق من النفس ويرتد إليها، وهو شعر مترف. عندما تقرأ الشعر الفارسي تجد الحدائق مزدهرة أمامك، وتجد أسباب المتاع والجواهر والزهور وما إلى ذلك تتبرج أمامك - طبيعة فارس من جهة - ثم تجد الغزل بشقيه المادي والإلهي. فهذا العروج الذي نحصل عليه هو عروج إلى هذه الصور البديعة وإلى هذا الخيال وإلى هذه الأصوات الجميلة التي تروق القارئ والسامع. فاللغة الفارسية لغة عذبة بلا جدال.
وبسؤال الدكتور علي الشابي التونسي المتشبع بالثقافة والفكر والشعر في تونس، حول رؤيته صورة إيران من خلال ما يكتبه أدباؤها وشعراؤها؟
قال الشابي: "في واقع الأمر، لقد طرحت مسألة أساسية في الموضوع وهي قضية التأثر والتأثير بين العربية والفارسية، وبالتحديد بين تونس وإيران".
وأكد أن العلاقة متينة بين الحضارتين العربية والفارسية، مشيرًا إلى بعض التأثيرات الفارسية في حياتنا التونسية، وإلى ما للتراث التونسي والأدب التونسي من تأثير في اللغة والأدب الفارسي.

التأثير الثقافي المتبادل بين تونس وإيران
وبين الشابي أنه بالنسبة للتأثير الفارسي، ينبغي أن نذكر أن القيروان عندما سُميت بهذا الاسم، فإن هذه التسمية فارسية الأصل. عندما جاء الفاتحون، ومن بينهم كتيبة خراسانية، ووصلوا إلى المنطقة التي أُسست فيها القيروان، سُمي هذا المعسكر الذي أُقيم آنذاك، قبل أن تُبنى القيروان، بهذا الاسم. هذه التسمية كانت من الجند الخراساني، لأن أصل الكلمة هو "كاروان" في اللغة الفارسية القديمة.
وأضاف أنه في العهد الأخميني والعهد الساساني، كانت الكلمة "كارا"، ومعناها "موطن القافلة"، ثم تطورت في اللغة الوسطى - كما يقول الفرس والمختصون في اللغة الفارسية الوسطى في العهد البرثي والعهد الساساني - فأصبحت "كاروان".
وعندما استُخدمت هذه الكلمة، استُخدمت كما هي، لكنها عُرّبت. والعرب عندما يُعرّبون كلمة، يضيفون فيها حرفًا أو يبدلون حرفًا بحرف. فأُدخلت القاف هنا لأن هذا صوت عربي، و"الفاء" في "كاروان" غير موجودة في العربية، لكن المقابل للفاء في اللغة العربية والقريب منها هو الواو، ولذلك سُميت "القيروان".
ونوه الشابي إلى أن المسألة لم تتوقف عند هذا الحد، فإن هذه الكلمة "القيروان" سافرت من جديد، بعد أن عُرّبت، إلى اللغة الفارسية، وأصبحت تُطلق عند الفرس على المغرب والمشرق معًا. ترى كيف أن الكلمة، وكيف أن التأثير، يبدو تبادلاً، ولا حدود لهذا التبادل.
شخصيات تونسية متأثرة بالفكر الفارسي
من جهة أخرى، نجد في بداية التكوين الثقافي التونسي، في القرن الثاني الهجري، جملة من العلماء ينتسبون إلى فارس وهم من القيروان، باعتبارهم أحفاد هؤلاء الذين وفدوا إلى القيروان وعاشوا فيها، فكان لهم أولاد وأحفاد. نجد منهم عبد الله بن فرّوخ الفارسي - و"فرّوخ" معناها "سعيد" - وكان من كبار العلماء في القيروان. درس على مالك كما درس على أبي حنيفة في الانتقال المعرفي الذي كان سائداً في ذلك الوقت، وأصبح من كبار المجتهدين، وأصبح صيته ذائعًا لدرجة أنه عندما كانت تُرسل من القيروان أسئلة إلى مالك، كان مالك يتريث في الإجابة لأنه يعتبر عبد الله بن فرّوخ من كبار الفقهاء وكبار المجتهدين في إفريقيا.
وأكد الشابي أن خالد بن يزيد الفارسي، من فقهاء القيروان أيضًا، ونجد أسد بن الفرات أصله من خراسان. أسد بن الفرات هذا كان عالماً كبيرًا وقائدًا معرفيًا وعسكريًا أيضًا.

تأثير الأدب التونسي على الفرس
وحول تأثر الفكر والأدب في إيران بالأدب التونسي والمفكرين التونسيين وبالرموز الإسلامية والثقافية التونسية، لفت الشابي إلى أنه لا ينبغي أن نغض الطرف عنها، وهي أن حضور إيران - حضور فارس - في الثقافة التونسية كان يتمثل في تدريس اللغة الفارسية. في سنة 1873، في المدرسة الصادقية، قبل الاحتلال الفرنسي، كانت الفارسية تُدرّس، وقد نجح فيها في سنة 1875 و1878 ثلاثة أو أربعة طلبة، نال المتقدمون منهم جائزة عبارة عن ساعة جيبية. كانت هذه اللغة تُدرّس، إلا أنه عندما وقع الاحتلال الفرنسي، أُلغيت هذه اللغات الإسلامية (الفارسية والتركية) وعُوضت باللاتينية وهكذا دواليك.
وتابع الشابي قائلاً: "ثم استمر الأمر إلى أن جئت إلى الجامعة بعد أن أكملت دراستي، وأخذنا ندرس الفارسية في الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين، وعملت أيضًا على تدريسها في كلية الآداب. هذا فيما يتصل بالتأثير الإيراني".
شاهد أيضا.. غموض الاتفاق العسكري مع الجزائر يثير الجدل في تونس.. إليكم التفاصيل!
وفيما يتعلق بالتأثير التونسي، نوه الشابي إلى أن تونس كانت تُسمى إفريقيا حتى القرن السادس عشر والسابع عشر، وهي التي أعطت اسمها لقارة إفريقيا نظراً لتجذر حضارتها وذيوع صيتها. فتونس أو إفريقيا في ذلك الوقت كانت ذائعة الصيت في جميع بلاد الإسلام.
وأضاف: "يروي أبو العرب القيرواني في كتابه 'طبقات علماء إفريقيا وتونس' أن امرأة في القرن الثاني للهجرة من خراسان كانت تقية وورعة، أرسلت رسالة عن طريق أحد الذين ذهبوا إلى الحج من سمرقند، وطلبت إليه أن يُسلم هذه الرسالة إلى أحد القيروانيين كي يسلمها إلى بهلول بن راشد العالم الكبير والزاهد الجليل".
وتابع: "عندما ذهب هذا الحاج إلى البلاد المقدسة، سأل عن من يكون من القيروانيين في مجلس من المجالس، فوجد أحدهم وسلّمه الرسالة. سُلّمت الرسالة إلى العالم الكبير والزاهد العظيم بهلول بن راشد في القرن الثاني للهجرة - وقد توفي سنة 182 هجرية. عندما فتح الرسالة وقرأها، وجد فيها تقول له: 'أنا امرأة من سمرقند بخراسان، تبت إلى الله توبة نصوحًا، وقد سمعت بأنك أحد الأربعة الكبار من العلماء والزهاد في بلاد الإسلام، فأرجو أن تدعو لي وأنت دعوتك مستجابة، كي يمنّ المولى عليّ بمزيد من التقوى'".

وبين الشابي أنه عندما قرأ بهلول هذه الرسالة - كما يقول أبو العرب - بلّل الرسالة بدموع عينيه، لأنه كان يريد أن يكون قريبًا من المولى سبحانه وتعالى دون أن تذيع شهرته ودون أن يُعرف، إذ يعتبر أن المسألة بينه وبين الله. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، في القرن الثالث للهجرة، يدل هذا على أن شهرة تونس كانت واسعة في بلاد خراسان، وإلا كيف تسمع هذه المرأة - وهي عامية وليست امرأة مثقفة - ببهلول وبما عليه من التقوى والفضل؟
وأشار الشابي إلى أنه في القرن الرابع للهجرة، وفد إلى تونس أبو حامد الخراساني ليتتلمذ على أبي إسحاق الجبنياني الذي كان يُعتبر من كبار العلماء وكبار الزهاد في إفريقية التونسية. فعندما وفد إليه قال الخراساني: "أنا جئتك زائرًا متتلمذًا." فقال له الجبنياني بتواضعه: "إن صدقت فأنت أحمق، وإن صدقتك فأنا أحمق منك! كيف تترك العراق ومكة والمدينة والشام ومصر وهي تزخر بالعلماء والزهاد، وتأتي إلى أبي إسحاق الجبنياني؟" فبكى أبو حامد الخراساني وقال له: "لو لم تكن كذلك لما أتيتك".
وأضاف: "ويحكي لنا مؤلف المناقب أن أبا حامد الخراساني عندما عاد إلى بلاده في خراسان، سُئل: 'من أعجب من رأيت؟' قال لهم: 'رأيت الصباغ العالم الكبير، فما رأيت أحسن منه، ورأيت الكتاني فما رأيت أحزن منه' - والحزن هنا مرتبط بالتصوف - 'ورأيت أبا إسحاق الجبنياني فما رأيت أزهد منه في هذه الدنيا'".
ولفت الشابي إلى أن هذا التأثير الثقافي كان بديعًا وعظيمًا، فـ"العمدة" لابن رشيق أثّرت تأثيرًا كبيرًا في نشأة البلاغة الفارسية، لأننا نجد المؤلف الفارسي رشيد الدين الوطواط قد كتب لأول مرة كتابًا بالفارسية في البلاغة وهو "حدائق السحر في دقائق الشعر"، وقد تأثر بابن رشيق تأثرًا كبيرًا، كما أن الحصري في كتاب "زهر الآداب" قد تأثر به الفرس أيضًا.
التفاصيل في الفيديو المرفق ...