الطولة كشّافة: مثل من الأمثال العربية العامية المتداولة، التي اعتمدت عليها دولة الاحتلال ردحاً من الوقت، في قضية الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط"، وأيضاً هو من الأمثال القليلة التي تفشل- أحياناً- في تحقيق ما تعنيه وتدل عليه. يعني هذا المثل، أنه كلما طالت المدة على مضي حادثةٍ ما، كلما تكشفت أسرارها، وعرفت خباياها، فالأمر هنا وفي هذه الحالة (حالة شاليط)، لم ينجح المثل هذه المرة، ولم تنجح بالتالي (إسرائيل) في عملية استثمارها لتلك المدة الطويلة، فكانت تسير الأمور على شاكلة أنه، كلما طالت المدة أي مدة حجز(شاليط)، كلما ازدادت القضية تعقيداً، وتضاعفت عسراً وتعسيراً، فقد كانت دولة الاحتلال تؤجل الحديث في الأسرى تارة، وتماطل في مواعيد المفاوضات حول القضية تارة أخرى وفي كل مرة، ونراها أكثر تباطؤاً وكسلاً، حتى في أوقات المفاوضات مع حركة المقاومة، من خلال الوسطاء الإقليميين والدوليين على جدٍ سواء، للسبب ذاته، على أنها في حقيقة الأمر، تبحث عن الاستفادة من إطالة المدة، التي من خلالها قد تتاح لها فرصة الكشف عن الخيط، الذي يدل على مكان الجندي شاليط، والعثور على الكنز الثمين.
لقد مثل أسر المقاومة الفلسطينية للجندي الإسرائيلي، قبل أكثر من خمسة أعوام من ثكنته العسكرية قرب مستوطنة كرم أبو سالم الواقعة إلى الشرق من مدينة رفح، معضلة غير مسبوقة للمؤسسة الإسرائيلية على اختلافها، حيث دارت خلال تلك الفترة مفاوضات شاقة وحرب إسرائيلية، وتضييق وحصار.
لم تدخر دولة الاحتلال جهداً، في عمليات البحث والتقصي، عن الجندي الإسرائيلي، واستعملت جميع آلياتها الضرورية والمتقدمة، بدءاً بالجواسيس الأكثر في المنطقة، ومروراً بالجائزة الكبرى وقيمتها 10 ملايين دولار، لمن يفيد بأي معلومة، تدل على مكان وجوده، وانتهاءً بالطائرات الاستطلاعية والأقمار الصناعية، وغيرها، ولكن دون جدوى، حتى إذا استيأست ووهنت، ونفذ صبرها وغلب حمارها، سقط عليها من غامض علمه، رئيس الشاباك الإسرائيلي "يورام كوهن" بتوصيته التي على أثرها، قُطعت ظهور جميع من في الحكومة الإسرائيلية، من أن أحلامهم بالعثور على شاليط، كأحلام إبليس في الجنة، وأن أمانيهم بليونة المقاومة – حماس- هي فقط، كحلم إبليس في النجاة من النار، حيث كان له من خلال توصيته هذه، إقناع هموم وزراء (إسرائيل)، بالإسراع في إتمام الصفقة لأن المستقبل بالنسبة لشاليط مجهول تماماً، وأن الشمعة التي في نهاية النفق، لم تكن مشتعلة من الأساس.
وكان أشار كوهن بصراحة، لوزراء الحكومة الصهيونية، بعدم وجود أي معلومات حديثة عن مكان شاليط أو مصيره، ولن يكون أي معلومات في المستقبل المنظور، وهو ما جعل الحكومة الصهيونية، تقوم بالإسراع في إتمام هذه الصفقة. كان هذا السبب فقط، هو السر العجيب في جلب الحبيب وراءها.
ولقد فشلت كل المحاولات التي قادها جهاز "الشاباك" في قطاع غزة لإطلاق سراح شاليط، الأمر الذي استدعى الكتاب الإسرائيليين لأن يتهكموا على المؤسسة الأمنية التي مكثت أكثر من خمسة أعوام في البحث عن جندي، دون أن يجدوا له أثراً، وذلك بعد إعلان استسلام المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، حين صرح وزير الجبهة الداخلية، ونائب وزير الدفاع السابق "متان فلنائي" بأن المؤسسات الأمنية الإسرائيلية، لا تعرف مكان وجوده ولن تعرف في المستقبل.
أما المستوى السياسي الإسرائيلي، فقد أدارت إسرائيل معركة أشد ضراوة، فعلى الأرض أعلنت عن حصار القطاع، وأغلقت المعابر، ودفعت بالمستوى العسكري للخروج بعمليات عسكرية، وضغطت على المستوى الأمني بقوة، وبين هذا وذاك أدار مفاوضات صعبة، لم تسفر عن أي شيءٍ سعت إليه.
ومع إنجاز الصفقة، اعتبرت قضية شاليط، انتصاراً آخر للمقاومة على (الاحتلال)، وذلك من ناحيتين الأولى، أن المقاومة فازت على إسرائيل أمنياً، وهو أمر مهم، لا سيما أن (إسرائيل) قلما تخطئ في الحصول على أهدافها، عندما تقع في مثل هذا الموقف، وخاصةً في جزءٍ هي في الحقيقة تسيطر عليه براً وجواً وبحراً، بالرغم من طول مدة أسر الجندي، وبالرغم من تشكك الكثيرين في نجاح المقاومة بإمكانية الاحتفاظ به مدة أطول، وخاصةً في ضوء اللهفة الإسرائيلية، على إنهاء هذه المعضلة لصالحها، وفي مدة قصيرة، ومن ناحية أخرى، فإن فوز المقاومة، بإرغام إسرائيل للخضوع لها، هو في حقيقته (أمرٌ جلل) ولقد وصف محلل القناة الإسرائيلية الأولى السياسي، بشأن الصفقة قوله:" لقد رضخت إسرائيل لمطالب حركة حماس"، وهذا الرضوخ الإسرائيلي مثّل الانتصار الثاني.
يضاف إليهما، الانتصارات المعنوية الكثيرة والمتتالية، التي تصب مباشرةً في صالح المقاومة بغض النظر عن الأثمان، التي يدفعها الشعب الفلسطيني وفي كل مرة، ولكن لا يجب أن ننس أن إسرائيل في أضعف حالاتها، سياسياً وعسكرياً وأمنياً، وحتى في علاقاتها إقليمياً ودولياً.
أيضاً إن نجاح الصفقة سيؤدي حتماً إلى تهدئة النفوس داخل الوطن وخارجه، من حيث استعادة الآمال في خروج بقية الأسرى من السجون والزنازين الإسرائيلية وبأي طريقة كانت،
إن المهم في صفقة الأسرى، أنها حققت ما يقارب 100% مما هو مأمولٌ منها، خاصةً أنها شملت ألف أسير فلسطيني و 27 أسيرة، بحيث لن تبق أسيرة واحدة، في سجون الاحتلال. على أن الصفقة ستكون على مرحلتين، الأولى تشمل 450 أسيراً، من ذوي الأحكام العالية بينهم 315 من أصحاب المؤبدات، والذين أمضوا عشرات السنين في سجون الاحتلال. وخاصةً إطلاق سراح كافة الأسيرات والأطفال وكبار السن، من الأسرى الذين كان عليهم خلافاً خلال المفاوضات الماضية، والمرحلة الثانية ستنفذ بعد شهرين من تنفيذ الصفقة الأولى، وأن الصفقة شملت أسرى من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس ومناطق عام 48 ، الأمر الذي اعتبر إنجازاً مهماً من حيث اختراقه المسائل المحرمة، التي تخص أسرى أهالي عرب 48 وخصوصاً أنها تقع تخت مسئولية (إسرائيل) مباشرةً، وكذلك أهالي القدس المحتلة، وهذا يعتبر انجازاً من قبل المقاومة الفلسطينية، وهضبة الجولان السوري، وفلسطينيي الشتات وهم من جميع الطيف الفلسطيني.
وإن من أهم نتائج هذه الصفقة، أنها أسهمت كثيراً في الالتفاف الجماهيري الفلسطيني حول الترحيب بها، والتي تمثلت بادئ الأمر بترحيب الرئيس محمود عباس بها، وكل الحركات والأحزاب والقيادات الفلسطينية.
فقد رحب الرئيس بإنجاز صفقة التبادل، واعتبرها انجازاً للشعب الفلسطيني وثمن الجهود الجبارة للشقيقة مصر، التي أفضت إلى هذه النتيجة المهمة للشعب الفلسطيني.
بدورها، رحبت حركة فتح بإتمام الصفقة، بهذا الانجاز وأشادت بكل من شارك بها، واعتبرتها انجازاً وطنياً بامتياز، سيخفف المعاناة عن جزء من الشعب، وأشادت "بالجهد المصري" الذي توج بهذا الاتفاق".
ومن جانبه رحب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا) بإتمام صفقة تبادل الأسرى، مطالباً بالإفراج عن جميع الأسرى، دون استثناء، ليتحقق السلام العادل والشامل في المنطقة.إضافةً إلى جميع الحركات والقوى الفلسطينية المختلفة.
وبالمقابل وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الصفقة بقوله:" لقد أدرنا مفاوضات صعبة وشاقة في عملية إطلاق سراح شاليط"، وتغطية على خيبة أمله أمام المقاومة، فقد ركز على الجانب العاطفي في استعادة شاليط، وأعلن أنه فهم قول "حكماء إسرائيل": يجب دفع كل ثمن مقابل فك أسر أي أسير يهودي في العالم، بعد أن لقي دعماً من رؤساء المؤسسات الأمنية وعلى رأسها الشاباك ورئيس الموساد ورئيس هيئة الأركان، والمؤسسات السياسية الأخرى.
على أن نتانياهو سعى إلى إنجاز هذه الصفقة بأسرع ما يمكن، إدراكًا منه بأن عدم الاستقرار في بعض الدول العربية، قد يعرّض حياة شاليط للخطر، وربما لن يتسن إنجاز هذه الصفقة أبدًا، مضيفاً، بأن إسرائيل شهدت توترًاً دائمًاً، ما بين الرغبة في إعادة الجندي شاليط إلى منزله وبين ضرورة الحفاظ على أمن (الاحتلال).
وكان قال أيضاً، خلال اجتماع حكومته، وسط حالةٍ من الوجوم والريبة على وجوه وزرائه من حوله، "أنا أؤمن أننا توصلنا إلى الاتفاق الأفضل في هذه الظروف، خاصة أن الوضع في الشرق الأوسط لا يشهد استقرارًا".
وقال معزيًاً "قلبي مع العائلات التي فقدت أبنائها من الإرهاب، كما أتفهم فهم صبرهم وثقتهم، لأنني أحدهم، لكن يتم اختبار القيادة في مثل هذه الظروف في قدرتها على اتخاذ القرارات الصعبة ولكنها قرارات صحيحة".
وبالرغم من هذه النهاية السعيدة، إلاّ إننا ما نأسف له أشد الأسف، هو عدم شمول الصفقة، إطلاق سراح كل القادة الأبطال، ومنهم الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات، والقيادي في حركة فتح مروان البرغوثي، وبقية الأخوة الذين لم يكونوا ضمن الصفقة.
الأمر الذي يفرض علينا الطمع والمزيد من الطمع، وحتى خروج آخر أسير فلسطيني، ويتوجب علينا بدايةً أن لا ننسى أبطالنا، من خلال وقوفنا الدائم والمتواصل، بجانب أسرانا البواسل، في معركتهم المستمرة ضد الكيان وأفاعيله.
إن صفقة التبادل هذه إنما هي نتاج ما زرعنا، ونتاج صمود أسرانا البواسل وتحدياتهم المستمرة لمؤسسة السجون الصهيونية، والتي أوضحت فشل سياسة التعنت الإسرائيلية، والممارسات الإسرائيلية، سواءً على النطاق الفلسطيني، أو داخل السجون الإسرائيلية، بعد أن ثبت أن سنوات الاعتقال مهما طالت، لا بد أن تزول وتنتهي، وأن فجر الحرية لهو آتٍ لا محالة، وأنه بات من الضروري أن تتضافر الجهود، وتتوحد المواقف لخدمة قضية الأسرى والمعتقلين بهدف تخفيف المعاناة عنهم وعن عائلاتهم، إلى أن يتحقق الإفراج الشامل عنهم جميعاً، بإذن الله.