جبهاتُ حلب على موعدٍ مع جولةٍ جديدة من المتوقّع أن تفوقَ كلّ ما سبقَها من مراحل «معركة حلب الكبرى»، والتي أدّت حتّى الآن إلى قلب موازين القوى بشكلٍ جذري لمصلحة الجيش السوري وحلفائه. وخلال الفترة الماضية عكفت غرف العمليّات العسكريّة على استكمالِ المعطيات اللازمة، في انتظار الساعة الصفر لفتح معارك متزامنةٍ على محاور عدّة تتوّج ما تمّ إنجازُه في المراحل السابقة.
ولا يقلّ حجمُ الاستعدادات عن تلكَ التي شهدتها عاصمة الشمال قبل فتح معركتها الكبرى في منتصفَ تشرين الأوّل الماضي. وعلاوةً على استقدام مجموعاتِ نُخبةٍ جديدة إلى محوري المعارك المُنتظرة (شرقاً وغرباً)، تمّ رفدُ عتاد الجيش بأسلحة ثقيلة وآليات إضافيّة. في الريف الشرقي، وكما كانَ متوقّعاً، أعيدَ تأهيلُ مطار كويرس العسكري الذي كُسر حصارُه في العاشر من تشرين الثاني، ليصبحَ في زمنٍ قياسي واحدةً من أشد القواعد العسكريّة جاهزيّة، ويتحوّل إلى منطقة حشد عالية الإمكانات. كذلك أتاحَت القضماتُ المتتاليةُ انطلاقاً من كويرس توفير مناطق تجمّع وتشكيلٍ قريبةٍ من مدينة الباب، أبرز معاقل تنظيم «الدولة الإسلامية» في الريف الحلبي. وعلى نحوٍ مُماثلٍ، تمّ رفدُ وتعزيزُ القوّات والعتاد في منطقة جبل عزّان (الريف الجنوبي)، والتي لعبَت دوراً أساسيّاً في معارك الريف الجنوبي برمّته. وكما تعاملَ الجيشُ وحلفاؤه في المراحل الماضية مع الريفين الشرقي والجنوبي بوصفهما مسرحَ عمليات واحداً منقسماً إلى جبهتين، من المُنتظر أن يُزامِنَ في المرحلة القادمةِ معارك الجبهتين الشماليّة الشرقيّة والشماليّة الغربيّة، اللتين باتتا أشدّ ارتباطاً بفعل عواملَ ميدانيّة، وأخرى تكتيكيّة، على الرّغم من أن الجبهتين متباعدتان، وأنّ الجيش وحلفاءَه يواجهونَ على كلٍّ منهما طرفاً منفرداً بذاته، بالمعنى العسكري («داعش» شرقاً، و«جيش الفتح» غرباً). في المقابل، ترزح المجموعات المسلّحة في معظم جبهات حلب تحت ضغط عوامل سلبية عدة، على رأسها انهيار الروح القتاليّة لدى قسم كبير من المسلّحين بفعل التراجع المستمر، يتساوى في ذلك «داعش» و«جيش الفتح». كذلك، يشتكي الأخير من «تقاعس الداعمين»، ويقول مصدر من داخله لـ«الأخبار» إنّ «النقص في السلاح النوعي بات هائلاً. لقد قطعوا عنّا إمدادات التاو». وضمن هذا السياق جاءت الأنباء الأخيرة عن اعتزام «حركة نور الدين زنكي» الانسحاب من معظم الجبهات، بسبب «ضعف التمويل والتسليح».
«الطوق» قريباً؟
الساعة الصفر للعمليّات سيكون من شأنها متى دقّت أن تضعَ إنجاز «طوق حلب» موضع التنفيذ هذه المرّة. وكانَت آخرُ محاولةٍ في هذا السياق قد أفضَت إلى تمترس الجيش في باشكوي (ريف حلب الشمالي) وفشل إحكام الطوق الذي يهدف في الدرجة الأولى إلى عزل المسلّحين المتمركزين في أحياء حلب الشرقيّة. وكانَ واضحاً أنّ القرار الذي اتّخذ منذ تلك المعركة ينصّ على عدم تكرار محاولة فرض الطوق من دون أن يكونَ نجاحه أمراً محسوماً. وخلال الشهور الأخيرة الماضية تبدّلت المعطيات الميدانيّة بشكلٍ جذري، وأفلح الجيش وحلفاؤه في إلحاق خسائر متتاليةٍ بالمجموعات وفي الوصول إلى تخوم خان العسل (الريف الغربي). وتبدو مناطق كفر حمرة، المنصورة، كفر داعل، وبابيص هدفاً أساسيّاً لعمليات جديدة يشنّها الجيش وحلفاؤه، تُكمل عمليات مماثلة عبر محور باشكوي، بغيةَ فرض الطوق الموعود.
معركة الباب مفصليّة
تحظى معركة الباب بأهميّة خاصّة لا تنبُعُ من رمزيّتها بوصفها أكبر معاقل «داعش» في ريف حلب، ومن أهميّتها لجهة الاقتراب من الرقّة «عاصمة التنظيم» فحسب، بل تتعدّاها إلى دور السيطرةِ عليها في تعزيز قدرات الجيش وحلفائه على الجبهة المقابلة (الريف الشمالي الغربي). فنجاح الجيش السوري في السيطرة على الباب سيؤدّي إلى توقّف عمليات «تجارة النفط البينيّة» المستمرّة بين «داعش» وباقي المجموعات المسلحة، وهي عملياتٌ لم تتوقّف رغم أنّ الطرفين يخوضان نزاعاتٍ مستمرّة في الريف الشّمالي على وجه الخصوص. وتعتمدُ مجموعاتُ «جيش الفتح»، وعلى رأسها «جبهة النصرة» و«حركة أحرار الشام الإسلامية»، على المشتقات النفطيّة القادمة من مناطق سيطرة «داعش» اعتماداً شبهَ كليّ لتأمين الوقود اللازم لآليّاتها العسكريّة. ولا يبدو تعويضُ انقطاع هذه المشتقات (في حال نجاح الجيش في السيطرة على المدينة) بوارداتٍ بديلةٍ عبر الحدود التركيّة إلى معاقل «جيش الفتح» في إدلب أمراً سهلاً. ويُفسّر هذا التفصيلُ الاستنفار التركي منذُ منتصف الشهر الماضي، حيثُ قام الجيش التركي بتفكيكِ ألغامٍ على طول الحدودِ المواجِهة للباب (منطقة الراعي وما حولها).
وترافقَت تلك الإجراءات مع مباحثات بين مجموعات «جيش الفتح» وقادة في «داعش» داخل الباب من سوريّي الجنسيّة بحثاً عن صيغةٍ تجعلُ الإسناد التركي في معركة الباب ممكناً، وهو أمرٌ يبدو متعذّراً في ظل سيطرة «داعش» على المنطقة. وعلمت «الأخبار» أنّ أحد السيناريوات التي طُرحَت هو قيامُ عناصر «داعش» السوريّين داخل الباب بإعلانِ «انشقاقٍ» مُتّفق عليه يُسقطُ سيطرة «داعش» نظريّاً، ويضمنُ قيام تحالفٍ بين المُنشقّين و«جيش الفتح». لكنّ هذا السيناريو اصطدمَ بإصرار قادة «داعش» على التمسك بالمدينة التي شهدت خلال الفترة الماضية حالات نزوح كبيرة. وسمح التنظيم المتطرّف للعائلات بمغادرة المدينة خلافاً لسياسته المُطبّقة في معظم مناطق سيطرته، خلال الشهرين الماضيين، وهي سياسة تُشبه إعلان «النفير العام» وتتضمّن إجراءات عدّة، من بينها منع السكّان من المغادرة. ومن المرجّح أن السماح للراغبين بمغادرة الباب جاء إثر تفاهماتٍ بين عناصر «داعش» المحليّين والقيادات التي رفضت سيناريو «الانشقاق» بالتوافق. ونصّت خطّة الدفاع البديلة على التمسّك بالمدينة، والتجهّز لـ«موقعة الباب» عبر حفر خنادق وأنفاق، وتفخيخ وتلغيم مداخل ومحاور مهمّة. في المقابل، واصلت السلطات التركيّة إجراءاتها على طول الحدود، مع الإيعاز لعدد من المجموعات المقرّبة بالاستعداد للدخول على الخط في حال سقوط الباب بيد الجيش السوري.
استدراج «النصرة»؟
حتّى أيام قليلة كانت «جبهة النصرة» ترفض بشكلٍ قاطع تعزيز قوّاتها في أحياء حلب الشرقيّة، رغم محاولات الإقناع المتكرّرة من قبل حلفائها. بل إنّ «النصرة» كانت تدرسُ بشكل جدي فكرة الانسحاب من تلك الأحياء، والتركيز في المرحلة القادمة على تحصين مناطق نفوذها في محافظة إدلب على وجه الخصوص. ويعود ذلك إلى الخشية من نجاح الجيش السوري وحلفائه في إطباق «الطوق»، وتحويل أحياء حلب الشرقيّة إلى مُعتقل كبير، على نحو مماثل لما حدث في حمص سابقاً. ويسود في أوساط «النصرة» اعتقادٌ بأنّ معظم حلفائها «لا يعوّل عليهم»، وبأنّهم قد يسارعون إلى التخلي عنها بمجرّد أن يتلقوا توجيهاً خارجيّاً بهذا. ويستحضر مصدر من «النصرة» مثالاً قريباً أدّى إلى انسحابها من مناطق كانت تُشكّل «المنطقة الآمنة» الموعودة. يقول المصدر لـ«الأخبار» إنّ «ضغط الإخوة في باقي الفصائل علينا اضطرّنا إلى الانسحاب من الريف الشمالي بذريعة عدم إحراج تركيّا في آب الماضي. ولا أحد يضمن عدم تكرار ذلك ما دام قرار معظم الفصائل في أيدي دول وأجهزة مخابرات». لكن، ورغم هذه المحاذير، يبدو أنّ تطوّرات اليومين الماضيين قد دفعت «النصرة» إلى إعادة حساباتها في هذا الشأن، من دون أن تتضّح الأسباب الحقيقيّة وراء هذا القرار. ويرى مصدر مرتبط بـ«حركة نور الدين زنكي» أنّ «البعض يريد استدراج النصرة إلى فخّ ما»، ويعتذر في الوقت نفسه عن عدم الخوض في التفاصيل.
«الإخوان» يعودون عبر «الجبهة الشاميّة»
في خطوةٍ تنشدُ العودة إلى زمن «الاتحادات»، أعلنت مجموعتان مسلّحتان في حلب اندماجهما أمس. وأصدرت «الجبهة الشامية» و«كتائب ثوار الشام» بياناً مشتركاً أعلنا فيه «اندماجهما بشكل كامل على كافة المستويات، العسكرية منها والسياسية والإدارية، تحت مسمى الجبهة الشامية». ويأتي هذا التطوّر في محاولة لإعادة «تجميع ما انفرط»، إذ سبق لمكوّن أساسي من مكوّنات «كتائب ثوّار الشام» (هو «لواء أمجاد الإسلام») أن انشقّ عن «الجبهة الشاميّة» في نيسان الماضي. وفي الشهر ذاته قامت «الشاميّة» باختطاف خمسة من قادة «كتائب ثوّار الشام»، لتقوم الأخيرة بالتلويح بـ«مبايعة داعش».وتصاعدت الأحداث وصولاً إلى إعلان «الجبهة الشاميّة» حلّ نفسها واقتصار نشاطها على «التنسيق بين فصائلها». وجاء ذلك على خلفيّة الهيمنة السعودية على ملف المجموعات في سوريا وإشرافها على «إعادة هيكلة الفصائل» في تلك الفترة. يُذكر أنّ «الشاميّة» مجموعةٌ محسوبةٌ على جماعة الإخوان المسلمين، ومدعومة من أنقرة في الدرجة الأولى.
*صهيب عنجريني - الاخبار