لم يكن الصاروخ الذي أُطلق على شمال مدينة تل أبيب المحتلة، صباح أول من أمس، عادياً من وجهة نظر جميع الأطراف. ففي الوقت الذي كان فيه رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، في طريقه إلى واشنطن لجلب «إنجازات سياسية» على حساب الجولان المحتل، جاء الصاروخ ثالثاً لحدثين مماثلين خلال الأشهر الماضية، وهو ما نظر إليه العدو على أنه «تجاوز خطير» وغير مسبوق، وكسر لكل قواعد الاشتباك مع قطاع غزة، إذ صار قلب فلسطين المحتلة في مرمى سياسة «تنقيط الصواريخ». كذلك يحمل الصاروخ رسائل قوية حول مكانة غزة في المشهد الفلسطيني والإقليمي، ولا سيما مع تباهي نتنياهو بتحقيق «إنجازات» على مستوى القدس والجولان قبل الانتخابات الإسرائيلية.
الصاروخ لم تتوقعه الأوساط الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية، رغم سقوط اثنين بـ«الخطأ» على جنوب تل أبيب نفسها قبل مدة قصيرة، وفي هذا إخفاق جديد. كذلك، لم يتبنّه أي من فصائل المقاومة، لكن هذه المرة مع نبرة «نفي» أقلّ، بل جاءت تحذيرات الفصائل، ولا سيما «الجهاد الإسلامي»، سريعة وواضحة من أن الردّ بعدوان سيقابَل بردّ قوي وواضح. وضمن الرسائل التي حملها الصاروخ أيضاً أن الهجمة الأخيرة التي قادها نتنياهو على القطاع قبل أسبوعين (بعد صاروخي تل أبيب)، وتباهى خلالها بشنّه مئة غارة، لم تردع المقاومة. وبجانب كل ما تقدم، رسالة متشعبة حول قدرات المقاومة المتعاظمة، وسيناريوات ترجمتها لدى الجيش الإسرائيلي في أي حرب مقبلة.
أما أكثر الرسائل وضوحاً، فهي أن غزة كسرت هيبة تل أبيب، بل هي في طريقها لجعل قصف هذه المدينة ــــ وحتى ما بعدها ــــ اعتيادياً، كما تفعل مع مستوطنات «غلاف غزة»، من دون أن يؤدي ذلك إلى جرّ المنطقة إلى حرب شاملة، مثلما كان يريد العدو تثبيته ضمن قواعد الاشتباك بعد حرب 2014. والأخطر في الرسائل نفسها قدرة غزة على التأثير في مجريات الانتخابات الإسرائيلية التي ستجري بعد أسبوعين، واعتبار هذا الصاروخ تنفيذاً للتهديد السابق الذي نقله الوسطاء المصريون إلى نتنياهو حول تفعيل أوراق يمكن بها التأثير في الانتخابات في حال المماطلة في تنفيذ التفاهمات حول التهدئة.
وبرغم أن الرد العنيف للعدو، بقصف 5 مبانٍ ومقارّ (منها مكتب رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» إسماعيل هنية) و9 مواقع تتبع لفصائل المقاومة وميناء خانيونس و20 أرضاً زراعية، كان متوقعاً، فإن فصائل المقاومة أعادت رسم الخطوط الحمراء، خاصة أنها لن تصمت إذا استُهدِفَت منشآت سكنية كما جرى خلال الجولات السابقة، وهو ما أكدته برشقات صاروخية على «غلاف غزة» ومدن محتلة أخرى. تقول مصادر في المقاومة لـ«الأخبار»، إنه على رغم عدم تبني إطلاق صاروخ تل أبيب هذه المرة، وعدم نفي المسؤولية عنه أيضاً، فإن «تقدير من أطلقه كان صائباً، وهو أن رد الاحتلال لن يصل حالة الحرب... توقيت الصاروخ أفسد فرحة نتنياهو الذي كان يعدّ للعودة بورقة انتخابية جديدة هي الاعتراف الأميركي الرسمي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان». وبدا ذلك واضحاً في جواب نتنياهو عن تساؤلات الصحافيين قبل صعوده الطائرة عائداً إلى فلسطين المحتلة مساء أمس، حول الرد المتوقع على قصف تل أبيب، بالقول: «تجاهلتم حدثاً تاريخياً عظيماً (الجولان) وتسألون عن غزة».
وبشأن الإرباك الذي ولّده استمرار القصف الإسرائيلي حتى بعد إعلان التهدئة، تشرح المصادر أن الاتصالات بين «حماس» والمصريين حوت «رسائل شديدة اللهجة من المقاومة، ما دفع الاحتلال إلى التراجع عن ضربة كبيرة كان يخطط لها، لكنه ذهب إلى ضربات لتحسين موقفه». وأضافت: «الاحتلال، فور قصف مكتب هنية وإعلان غرفة العمليات المشتركة للمقاومة بدء ردها، أرسل مع الوسطاء أنه يريد البدء في التهدئة، لكن الفصائل تأخرت لساعات في الرد على الطلب الإسرائيلي... وبعدما قصفت «غلاف غزة» وعسقلان بأكثر من 80 صاروخاً، أبلغت المصريين بالموافقة وتحديد موعد للتهدئة».
في الوقت نفسه، قالت المصادر ذاتها إن التقدير الحالي يشير إلى أن رئيس حكومة العدو يسعى إلى استغلال ما حدث وإبقاء الوضع في غزة متوتراً دون الاشتباك المباشر والواسع حتى يوم السبت المقبل، وهو موعد «المسيرات الكبيرة» التي دعت إليها «الهيئة العليا لمسيرات العودة» في ذكرى «يوم الأرض» على حدود القطاع، وذلك بِنِيّة إفشالها وإضعاف التحشيد لها في ظلّ أن التهدئة لم تثبت، «لكن المقاومة لن تقبل هذه المعادلة». وتضيف المصادر أن «الاتصالات بين المقاومة والمصريين متواصلة وفق مبدأ الهدوء مقابل الهدوء، والمقاومة كررت رسائل شديدة اللهجة بشأن أي عملية غادرة خلال الأيام المقبلة، ومضمونها أن الرد الأوّلي على ذلك الغدر سيفوق تخيل جميع المستويات في دولة الاحتلال».
ورغم سرعة قبول الفصائل بالتهدئة الشفوية التي رتّبها المصريون أول من أمس، وعودة الحياة في غزة إلى حالتها الاعتيادية، بل وعمل بعض «وحدات الإرباك الليلي»، مقابل نفي العدو وجود تهدئة، ترى المقاومة أن غزة حققت إنجازات، منها أنها أثبتت نديتها مع العدو «الذي يفاوض تحت النار للمرة الأولى»، وأرسلت بوضوح أن «الحصار المفروض على شعبنا لا مجال له إلا أن يكسر».
على المقلب المضاد، تتواصل الانتقادات الإسرائيلية لسياسة نتنياهو إزاء غزة، خاصة بعد تكرار إطلاق الصواريخ على تل أبيب. إذ فنّد عدد من السياسيين والصحافيين ادعاءاته بأنه وجه ضربة «غير مسبوقة» منذ حرب 2014، واتهموه بالكذب، ولا سيما المراسل العسكري في «القناة 13» العبرية، أور هيلر، الذي أكد أن التصعيد الإسرائيلي في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي (بعد كشف الوحدة الإسرائيلية الخاصة في خان يونس) شمل 150 غارة جوية، فيما وصل التصعيد في أعقاب الهجمات الصاروخية على منطقة «غوش دان» قبل أكثر من أسبوع إلى 100 غارة، لكن جولة التصعيد الأخيرة بعد الصاروخ على «موشاف مشميرت» لم تتعدّ 50 ــــ 60 غارة.
الأسرى نحو إضراب مفتوح عن الطعام
بينما يقترب موعد الانتخابات الإسرائيلية (التاسع من الشهر المقبل)، يزداد قمع «مصلحة السجون» للأسرى الفلسطينيين، إذ يريد وزير الداخلية الإسرائيلي، جلعاد أردان، كسب أصوات انتخابية إضافية بخطواته الأخيرة. ففجر الإثنين الماضي، تواترت الأخبار من سجن النقب الصحراوي عن اقتحام جنود العدو الأقسام 3، 4، 7، التي تضمّ ما يقارب 300 أسير من حركة «حماس»، وإصابة الأسيرين إسلام وشاحي وعدي سالم بجروح خطيرة، بعد ادّعاء الاحتلال أنهما حاولا تنفيذ عملية طعن ضد أحد الجنود المقتحمين. في هذا السياق، قالت «هيئة شؤون الأسرى» إن «ما لا يقل عن 90 أسيراً أصيبوا بجروح مختلفة بينهم 4 في حال الخطر»، فيما قالت «هيئة الأسرى» إن إدارة السجون أعلنت تعليق زيارات الأهالي في معظم السجون.
من جهتها، ذكرت صحيفة «هآرتس» أن الجيش الإسرائيلي وممثلي «الشاباك» حذروا، الأسبوع الماضي، من نقل أسرى «حماس» في هذا التوقيت إلى سجن «رامون» الذي تمّ تركيب أجهزة تشويش فيه، لأن ذلك «قد يؤدي إلى اندلاع أعمال عنف». لكن الصحيفة أوضحت أن الجيش و«الشاباك» وافقا على مشروع التشويش، لكنهما حذّرا من التوقيت الذي اختارته «مصلحة السجون» لنقل 100 أسير من «حماس». مع ذلك، أصرّت «السجون» على رأيها، على أساس أن التراجع سيُفسَّر ضعفاً أمام الأسرى.
ومن المتوقع أن يبدأ الأسرى إضراباً مفتوحاً عن الطعام في السابع من الشهر المقبل، يشارك فيه أسرى «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، فيما يتوقع أن يتخذ أسرى «فتح» خطوات احتجاج تضامناً معهم.
هاني إبراهيم - الاخبار