العالم- سورية
ومنذ بداية الحرب ما زالت سوريا تعاني أزمة البذور ولا سيما القمح، لكن في عام 2014 ومع اشتداد المعارك واتساع نيرانها لم يكن أمام المركز الدولي "إيكاردا" (يقع مقره في تل حديا بريف حلب) سوى إرسال ما يقارب 116 عينة للبذور إلى هذه الجزيرة بدرجة مئوية ناقص 18 في قبو يسمى "نهاية العالم"، أو "يوم القيامة".
وبهذا الشكل نجح فريق المركز الدولي من إنقاذ البنك الجيني الذي يضم أمهات البذور النادرة، وبدأ في عام 2015 توزيعها وشحنها من القبو إلى مراكز عمليات ومختبرات فرعية في دول عربية كالمغرب ولبنان، وكذلك إلى مزارعين للاستفادة من هذا الإنتاج النوعي.
"سفينة نوح البذار السورية" ربما يكون وصفاً مناسباً للقبو النرويجي البارد في سفالبارد، حيث أعلن المدير العام للمركز الدولي إيكاردا، محمود الصلح حينها عن سحب 140 ألف صندوق، في القبو الذي افتتح عام 2008 حماية لبذور متنوعة مثل القمح والفول والرز وغيرها تحسباً لكوارث مناخية أو حروب وأوبئة، وضم 860 ألف عينة من جميع دول العالم تقريباً، لكن مركز إيكاردا وبذوره التي تحتوي على نباتات أصلية وفريدة هي من الأنواع المطورة بنسبة 80 في المئة، بحسب الصلح.
وتمكن طاقم المركز من صنع احتياطي بنسبة 98 في المئة، ونجحوا في زراعة العينات الأصيلة وشحنوها إلى سائر العالم، ولا سيما لمراكز الأبحاث بغية إنتاج أصناف من القمح مقاوم للجفاف، بخاصة مع التغيرات المناخية، وازدياد الاحتباس الحراري بشكل غير مسبوق.
البذور هدية
في غضون ذلك، اتسعت معركة البذور بعد نضوب الإنتاج، وانحسار اليد العاملة والخبيرة، علاوة على دمار المختبرات البحثية، والمؤسسات الإنتاجية التي توفر البذور، بالتالي اعتمد المزارعون على الاستيراد، أو زراعة الكميات المتوافرة في الأسواق المحلية بشق الأنفس وسط تهريب البذور من خارج البلاد بطريقة تمنعها السلطات من دون موافقة مسبقة للحد من وصول آفات زراعية تؤثر على الأراضي والإنتاج الزراعي.
ومع اتساع حرب تدور رحاها إلى اليوم في الشمال والشمال الشرقي، تركت تأثيرها على أراض زراعية تتوزع على ضفاف الفرات وتسمى الجزيرة السورية هي سلة الغذاء لكامل البلاد، وانخفض منذ سنوات المردود إلى درجة إرسال الولايات المتحدة شحنات من بذور القمح في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2021 بلغت ثلاثة آلاف طن أهدتها للمزارعين في الأراضي التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية الكردية لإنتاج عشرات الآلاف من أطنان القمح.
وعلى رغم حاجة أراضي الجزيرة وشمال شرقي سوريا لهذه الدفعة الضخمة من البذور إلا أن الخبراء الزراعيين راودتهم الشكوك بنجاعتها، ومدى مناسبتها المنطقة، وكونها أيضاً لا تتوافق مع الأجواء المناخية.
ولفت المهندس والباحث في شؤون إكثار البذار، مضر العشي، إلى وجود أزمة بذار بدأت منذ عام 2012 وما زالت متواصلة على رغم تداركها بزيادة إنتاج البذور عبر تجارب فردية أو مجتمعية، وحكومية.
وقال العشي، "من المهم دعم الأراضي الزراعية في الشمال الشرقي من البلاد بالأبحاث الزراعية المتقدمة، والمختبرات البحثية اللازمة، وعدم توقف أي دعم علمي، فتلك المناطق التي تحكمها المعارضة السورية تصلها الاحتياجات اللازمة بدعم تركي، والأراضي المسيطر عليها من قبل الحكومة تعيد إنتاج مخابرها بالتالي تحصل على الإنتاج من البنك الوراثي من البذور المناسبة والمتوافرة لديها، لكن كل الخوف من انهيار أراضي الجزيرة، فالحسكة والرقة وحدهما لديهما ثلث إنتاج سوريا، ولعل وصول أصناف من البذور تحمل آفات يمكن أن يهدم كل بناء زراعي محتمل".
ولم تخف وزارة الزراعة تخوفها في حينها من دخول أصناف من البذور غير مرغوب بها بل مرفوضة منذ عام 1999 لأسباب عدة أبرزها كونها ذات مردود إنتاجي متدن. وقال وزير الزراعة السوري، حسان قطنا "البذور الموزعة من الجانب الأميركي على الفلاحين في شمال شرقي البلاد تحتوي على آفة النيماتودا الفتاكة".
بذرة الحياة في الظلام
ثمة معركة في الخفاء طاولت فصولها البذور وجودتها، ودرجة صمودها أمام التبدلات المناخية المتسارعة، وكما نجا الناس من معارك شرسة خلال الحرب الدائرة كذلك سلمت عدة بنوك تتبع لمؤسسة "إكثار البذار" من الأذى والدمار بأعجوبة.
يروي المدير العام السابق لمؤسسة إكثار البذار، بسام السليمان، عن قصة نجاة أجود الأصناف بعد أن اقتربت الاشتباكات المسلحة نحو مقر الشركة العامة وفيه المختبرات الحديثة وباتت على خطوط التماس لتعمل الكوادر الفنية على نقلها إلى مقر سري وغير متوقع في حديقة عامة بمدينة حلب، شمال سوريا وبغرفة مظلمة وباردة لتحافظ عليها لسنوات ولتعود مجدداً إلى مكانها بعد ترميم مقر الشركة حين الاستقرار الأمني.
يقول السليمان، "أصاب الدمار كثيراً من المشاريع المتطورة والمخابر المهمة ومنها المشروع الوطني لإنتاج بذار البطاطا، ولعل الخطة التي اتبعها الخبراء في مؤسسة إكثار البذار هي بصيص أمل للحفاظ على أمهات البذار الفريدة من نوعها، وتشير المعلومات الواردة عن توفير مستودع خاص مهمته تخزين البذور خشية من أزمات مناخية مستقبلية".
تصنيع بأيد محلية
في المقابل، تسعى مؤسسة إكثار البذار التابعة للمعارضة السورية شمالاً إلى إبرام عقود مع مزارعي قمح لديهم الخبرة لإنتاج البذور المطلوبة في أعقاب ما دمرته الحرب من بذور. ويقول مدير الجودة في مؤسسة إكثار البذار في شمال سوريا، أحمد الخضر عن حالة الأراضي الجيدة وتوقع إنتاج بين أربعة أو خمسة آلاف طن تصنع ضمن كوادر محلية.
السباق نحو كسب البذور وعدم خسارتها وسط المعارك الدائرة هي حرب تحدث في الظل، وهي معركة طويلة الأمد مع الطبيعة وعوامل الجفاف والتصحر وقلة الأمطار، وبشرية نتيجة ضعف الإنتاج، وهجرة المزارعين لأراضيهم، ووصول بذور تحمل آفات أو ليست بالجودة المطلوبة حيث تنتج محاصيل متدنية، لكن تجربة إيكاردا التي قاومت الحرب، وحافظت على أمهات البذور والعينات الفريدة بفضل التعاون الدولي أثمرت في نهاية المطاف.