ربحت إيران في "مرونة المصارع"... ماذا عن الأسد ولبنان؟

ربحت إيران في
الإثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠١٣ - ٠٩:٢٩ بتوقيت غرينتش

اتفقت إيران والدول الغربية. مجرد الاتفاق هو الحدث، اما التفاصيل، فهي قابلة للتعديل في كل الاتجاهات. ربحت إيران في «مرونة المصارع»، لكن الصراع سيستمر، إذ أن المتضررين من اي انتعاش لإيران وحلفائها لن يهدأوا. يكفي المرء أن ينظر إلى الهستيريا الإسرائيلية بعد الاعلان عن الاتفاق، ويلتفت إلى القمة العاجلة التي جمعتها السعودية على أرضها، ليفهم أن ربح معركة لا يعني مطلقاً انتهاء الحرب.

لنبسط المسألة: إيران تملك قوة نارية كبيرة وحركة دبلوماسية نشطة، ولكنها كانت قد بدأت تحتاج فعلياً لمصادر مالية. وصل الأمر إلى حد التوقف عن دفع بعض الرواتب المهمة في سياق الصراع الاستراتيجي. مجرد تدفق الأموال مجدداً إلى مصارفها يعني الكثير. هذا أمر حيوي جداً في الوقت الراهن. الأمر الثاني المهم، لا بل الإنجاز الأهم، هو اعتراف العالم مباشرة أو مداورة بحق إيران في التخصيب. هذا هو المهم الآن. أما بعد ستة أشهر فتنطبق على الاتفاق قصة القيصر والحاخام والكلب، ومفاد القصة أنه حين طرد القيصر اليهود من روسيا، جاءه حاخام يقول لو أبقيتني عندك فسأجعل كلبك ينطق بكلام كالبشر بعد عامين. وافق القيصر على إبقائه في القصر، وقال له: إن لم تنجح فسأقتلك. وعندما أنبت زوجة الحاخام زوجها على اقتراحه، قال لها: «بعد عامين يموت القيصر أو أنا أو الكلب».
أما وقد ربحت إيران في هذه الجولة المهمة، فماذا عن ملفات المنطقة، وتحديداً سوريا ولبنان وحزب الله والعراق؟ لا يمكن مطلقاً أن يقتصر الاتفاق على النووي، وهو اتفاق متشعب متكامل، ستظهر نتائجه تباعاً، كما ستظهر تباعاً أنياب المتضررين منه.

ماذا أولاً عن لبنان؟
لم يتردد العاهل السعودي الملك عبدالله حين استقبل الرئيس ميشال سليمان بالسؤال المفخخ: «كيف تسمح لحزب الشيطان بأن يبقى في سوريا؟» بعد أيام، كانت إيران، حليفة حزب الله وراعيته، تتعرض لتفجير انتحاري مزدوج. وقف سليمان إلى جانب السفير الإيراني متقبلاً التعازي واتصل بالرئيس حسن روحاني معزيا. وقد كان المشهد لافتا. السفير غضنفر ركن آبادي واقفاً بين سليمان إلى يمينه والنائب سليمان فرنجية إلى يساره. إيران تقف بين طرفي نقيض. ربما تذكر رئيس تيار المردة الرحلة الشهيرة التي قادته، قبل سنوات، إلى دمشق مع الوزير علي حسن خليل والحاج حسين الخليل المعاون السياسي للسيد حسن نصرالله للاتفاق على اختيار قائد الجيش ميشال سليمان رئيسا. هل ندم فرنجية؟ على الأرجح نعم، يقول عارفوه.
لعل زيارة سليمان إلى السفارة وقراره تضييق نطاق احتفالات مناسبة عيد الاستقلال (ربما عملاً بنصيحة أحد كبار قادة 8 آذار)، خفف قليلاً من نقمة خصومه عليه بعد رحلته إلى السعودية. ربما خفف قليلاً فقط. لا يزال المناخ العام ذاهباً صوب عدم التمديد أو التجديد، ومرجحاً الفراغ الرئاسي والشلل الحكومي. لفراغ كهذا وظائف كثيرة في الفترة الحالية، ولا بأس أن نأى لبنان تحت ثقل همومه والشجون. صراع المحاور في أوجه. وحده قرار سعودي بالعودة إلى منطق التفاهمات مع إيران وحول الملف السوري قد يغير المعادلة. وفي كل الحالات، يبدو سليمان بعيداً عن نتائج التفاهمات. هكذا يقال.
اللافت أن الأميركيين أنفسهم صاروا يروجون مقولة أن الأولوية الآن هي لمكافحة الإرهاب. لعل رئيس مجلس النواب نبيه بري سمع هذا من نائب مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الطاقة آموس هوشستين والسفير الأميركي ديفيد هيل. كان هدف اللقاء بحث مستقبل الطاقة في لبنان. خرج السفير يلقي بيان استنكار لتفجير السفارة الإيرانية ويصفه بالإرهابي والدنيء. لم ينتظر بري أفضل من هذا. السفير البريطاني طوم فلتشر ذهب أبعد من التصريح، تبرع بدمه لضحايا الإرهاب.
يعود صحافيان بريطاني وأميركي من دمشق. يزوران، تباعاً، رئيس جبهة النضال الوطني النائب وليد جنبلاط. ينقلان قراءة جديدة للاوضاع، مختصرها أن الاولوية باتت لمحاربة الإرهاب والتفاوض مع إيران يحكى عن إشارات ورسائل بين جنبلاط ودمشق. لا أحد يستطيع الجزم. ينفي الزعيم الدرزي أي تحول جذري في موقفه من نظام الأسد. يذهب البعض إلى حد القول أن مسؤولاً سورياً كبيراً قال لضيف لبناني «إن دمشق لا تريد إنهاء عائلة جنبلاط، لكن لا حاجة للتواصل الآن». ثمة من فهم أن تيمور، وليس والده، قد يستقبل يوماً ما في سوريا. يقال أيضاً أن الأسد لم يقبل حتى مناقشة فكرة جنبلاط التي نقلها إليه الأمير طلال إرسال لتسليح الدروز بغية حماية أنفسهم. اعتبر ذلك مساساً بوحدة سوريا وضرباً على وتر المذهبية.
تتصرف سوريا على أساس أن الوقت لمصلحتها. لبنان ليس مهما الآن، سوى في جانبه الأمني. ثمة قناعة بأن الجميع سيعود بعد أن تتغير الرياح الأميركية. وحده الأسد مستمر على رأيه بأن المعركة طويلة. الوضع العسكري تحسن لمصلحة السلطة لكن يجب عدم المغالاة. عمليات الكر والفر مستمرة. المسلحون يزدادون شراسة. التدريب في الأردن واضح. القرار المركزي عند بعض الدول الداعمة لم يتغير: يجب إسقاط الأسد، أو على الأقل السعي إلى تعديل الوضع العسكري. المعركة قد تشهد إذاً الكثير من المفاجآت. ولبنان أيضاً.

دمشق تتهم، طهران لا
كان الهجوم على السفارة الإيرانية شديد الإتقان. أظهر أن المخططين جهة فاعلة وقادرة على الضرب بقوة. ذهبت الشكوك والاتهامات مباشرة صوب السعودية. لا أحد يستطيع أن يؤكد أو ينفي. المستفيدون كثيرون. هو، إذاً، اتهام سياسي بامتياز يشبه ما حصل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
سارع وزير الإعلام السوري عمران الزعبي للقول إن الاستخبارات السعودية والإسرائيلية تقف خلف التفجير الإرهابي ضد السفارة الإيرانية. هنا، أيضاً، الاتهام سياسي بامتياز. سارع أو ربما تسرع. ليس مهماً. السعودية حالياٌ في قفص الاتهام المعلن عند سوريا وحزب الله، وغير المعلن عند إيران وروسيا.
في المقابل، بقيت إيران شديدة الحذر. حصرت الاتهام بإسرائيل وحلفائها، ولم تذكر السعودية مطلقاً. مرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي ألقى خطاباً طويلاً خلا من أي اشارة إلى التفجير. اختار، بدلاً من ذلك، أن يعطي شرعية للمفاوضين الإيرانيين في جنيف. وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إختار صحيفة سعودية لنشر مقال بعنوان «جيراننا أولويتنا». تراوحت الخيارات بداية بين صحيفتي «الحياة» و«الشرق الاوسط»، واختيرت الثانية لأنها أكثر تعبيراً عن السياسة السعودية. الهدف واضح: تهدئة مخاوف الرياض من الاتفاق العتيد مع الدول الغربية.
هنا بيت القصيد. وضعت إيران نفسها الآن في مصاف الكبار. لا حاجة للغرق في اتهامات ومهاترات تؤثر على المفاوضات. هي الآن ضحية الإرهاب. هذا مفيد جداً. لا بد من إنجاح المفاوضات. كل شيء يأتي في وقته. الملفات كثيرة ولا تقتصر على النووي.
لم يكن التفجير من النوع القابل للهضم لولا ضرورات التفاوض. يقتل الملحق الثقافي. يسقط عدد من مسؤولي الأمن. ربما سقط آخرون أيضاً. على الأرجح سقط آخرون وربما أحدهم مهم. السفير غضنفر ركن آبادي لم يكن الوحيد المستهدف. لا أحد يعرف، غير أصحاب الشأن، من بالضبط قد قتل. هذه مسائل أمنية استخباراتية دقيقة. لا بأس. كانت الرسالة خطيرة وواضحة. إيران مستهدفة. يعرف من استهدفها أنه اجتاز خطاً أحمر.

الرد في سوريا
لم تمض ساعتان حتى اجتاز الجيش السوري كل العوائق ووصل إلى بلدة قارة. بدأت معركة القلمون. تقدم الجيش أيضاً في ريف دمشق الجنوبي وريف حلب الجنوبي. هنا الرد أهم من الرد المباشر على التفجير. إيران وسوريا وحزب الله يعرفون هذا. كل المنطقة أمام تحولات كبيرة. الصبر وحسن التفاوض مع الإبقاء على القوة العسكرية هو الشعار. التنسيق خلف الكواليس قد يفاجئ كثيرين، أكان مع قيادات عسكرية مقاتلة بدأت تعود إلى كنف الجيش السوري وتسلم سلاحها، أو حتى مع اهالي عرسال الذين قد يكشفون قريباً عن خطوة ضد المسلحين على أراضيهم. حتى الشمال اللبناني قد يشهد تغييرات. يجب تمهيد الطريق ليبدو الأمر على أنه استكمال لحرب مكافحة الإرهاب.
لنوسع الآن الخريطة قليلا: مصر تطرد السفير التركي. وزير الخارجية الأميركي جون كيري يتهم الإخوان المسلمين بـ«سرقة الثورة». بريطانيا تقرر استئناف بيع وتسليم أسلحة إلى مصر. قرر العالم طي صفحة الإخوان في مصر، تفرح السعودية، ينتعش الفريق أول عبد الفتاح السيسي، تقلق حماس. تربح إسرائيل أيضاً. لا شيء أصلاً يفسر هستيريا إسرائيل ضد الاتفاق النووي سوى رغبتها بالحصول على ثمن في فلسطين.
أميركا وروسيا: تفاهم وتنافس
بعد أيام قليلة يوافق الكونغرس الأميركي على طلب الرئيس باراك أوباما تخفيف العقوبات عن إيران. ربح سيد البيت الأبيض إنجازاً على مستوى دولي. صار منذ أمس رهينة النجاح وهدفاً لإسرائيل. لا بأس. يعرف أوباما أنه أمام منافسة شرسة من الروس. نظيره فلاديمير بوتين يتمدد صوب القاهرة. لا يرسل عادة وزيري دفاع وخارجية إلا إلى الدول المهمة لبلاده. كذلك استقبل نائب وزير الدفاع الجزائري لصفقة سلاح بمليارات الدولارات. إستقبله قبل أيام من لقاء أوباما مع العاهل المغربي الملك الحسن الثاني. هل بالصدفة؟

زمن التسويات والمعارك
قالها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: «الأولوية لمحاربة الإرهاب لا لتنحي الأسد». لم يرد عليه أحد. لن يرد عليه أحد. بات الجيشان السوري والمصري رأسي حربة في محاربة الإرهاب. هذا هو المهم.
القبول بهذا المنطق صعب. إسرائيل ترفع الصوت. قد تساهم في تفجيرات أو مفاجآت أمنية لقلب الطاولة. قد تهدأ إذا أهدأها الأميركيون في فلسطين بعضاً مما تريده مرفقاً بغض طرف عربي وإقليمي. سيهدونها للأسف. هناك دول أخرى لا تزال غير قابلة بمنطق التسويات. يستمر تحركها على الأرض.
في هذا التحرك تتوحد فصائل إسلامية مقاتلة في سوريا تحت راية واحدة، هدفها إسقاط النظام السوري وإقامة دولة إسلامية. الصراع الدموي مرشح للتفاقم إذاً كلما تقدمت التسويات. أمس، حصلت مواجهات عنيفة أوضحت رغبة المسلحين وداعميهم في تحقيق انجاز في الغوطة الشرقية. بالفعل تقدموا قليلا. كاد وزير المصالحة الوطنية علي حيدر يقتل على مذبح هذه التسويات، أو لمنعه من المشاركة في تسويات مقبلة. نجا، لكن سائقه قتل. إنضم إلى قائمة الأبرياء الذين سقطوا أمام السفارة الإيرانية. وقود الكبار غالباً ما تحرق قلوب الصغار. إختفى رجاء الناصر أمين سر هيئة التنسيق. هل لاختفائه علاقة باستعداده للتوجه إلى موسكو واللقاء مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف؟ هذا ممكن.
في زمن التسويات، غالباً ما تسيل دماء وتختفي أسماء وتتغير موازين القوى... أما وقد تم توقيع الاتفاق الإيراني ــ الغربي، فقد بات الباب مفتوحاً على كل الاحتمالات في سوريا ولبنان والعراق وصولاً إلى افغانستان، لكن الأكيد أن المحور الروسي ــ الإيراني ــ السوري مع حزب الله بات في وضع أفضل. ربما أفضل بكثير.

* سامي كليب