الامام موسى الكاظم (ع) زين المجتهدين وباب الحوائج

الامام موسى الكاظم (ع) زين المجتهدين وباب الحوائج
الأحد ٠١ مايو ٢٠١٦ - ٠٧:٤٢ بتوقيت غرينتش

إن كل واحد من أئمة الهدى من آل البيت عليهم‌ السلام هو نسخة ناطقة بمكارم أخلاق جدهم رسول الله صلى‌الله‌ عليه‌ وآله، واختصار لشخصيته بجميع عناصرها الأخلاقية والروحية والإنسانية، والامام أبو الحسن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد باقر العلم ابن علي زين العابدين ابن الحسين السبط الشهيد ابن علي أمير المؤمنين وسيد الوصيين، سابع أئمة الهدى من آل البيت الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، وقد قال أبو عبد الله الصادق عليه ‌السلام في وصف ولده أبي الحسن موسى عليه ‌السلام كلمة اختصر فيها هذه الحقيقة: انه نبعة نبوة.

ولد الإمام موسى الكاظم عليه السلام في الأبواء - بين مكة والمدينة ـ يوم السابع من صفر سنة 128هـ، واطعم والده الإمام الصادق عليه السلام عند ولادته الناس ثلاثة أيام. اما أمه تسمى حميدة ابنة صاعد البربري، وكانت حميدة من أشراف الأعاجم كما في البحار عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب".
كنيته أبو الحسن، أما ألقابه فهي: العبد الصالح، النفس الزكية، زين المجتهدين، الوفي، الصابر، الأمين والزاهد. ومن أشهر ألقابه عند الشيعة باب الحوائج لما له من كرامات عظيمة، وسمي الكاظم لكظمه الغيظ حتى مضى قتيلاً في حبسه.
ولد الإمام موسى بن جعفر في نهاية العهد الأموي، وعاصر أيّام انهيار هذا البيت الذي عاث باسم الخلافة النبويّة في أرض الإسلام فساداً. وعاصر أيضاً بدايات نشوء الحكم العبّاسي الذي استولى على مركز القيادة في العالم الإسلامي تحت شعار الدعوة إلى الرضا من آل محمد صلى ‌الله ‌عليه ‌و آله‌ وسلم .
وعاش في ظلّ أبيه الصادق عليه ‌السلام، عقدين من عمره المبارك، وتفيّأ بظلال علوم والده الكريم ومدرسته الربّانية التي استقطبت بأشعتها النافذة العالم الإسلامي بل الإنساني أجمع. تدرّج الإمام موسى بن جعفر في طفولة زاكية مميزة، فتربّى في حجر الإسلام، ورضع من ثدي الإيمان، وتغذى من عطف أبيه الإمام الصادق، حيث أغدق عليه أشعة من روحه الطاهرة وأرشده إلى عادات الأئمة الشريفة وسلوكهم النيّر، فالتقت في سنّه المبكر جميع عناصر التربية الإسلامية السليمة، حتى أحرز في صغره جميع أنواع التهذيب والكمال والأخلاق الحميدة، ومن شبّ على شيء شاب عليه. هذه الطفولة المميزة استقبلها الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وهو ناعم البال بحفاوة وتكريم خاص، فأبوه أغدق عليه عطفاً مستفيضاً، وحمل له من الحب ما لا يحمله لغيره، حيث قدّمه على بقية ولده، فاندفع قائلاً: (الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء ونتيجة هذا الحب الأبوي المميز أخذت جماهير المسلمين تقابل الإمام موسى بالعناية والتكريم، وجماهير الشيعة بصورة خاصة، لأنّهم يعتقدون أن مقام الإمامة كمقام النبوة، بعيداً عن المحاباة، سوى ما يتصل بتأييد الفضيلة والإشادة بالإيمان، وعلى ضوء ذلك أعلن الإمام الصادق حبّه الكبير ومودته الوثيقة لولده الحبيب.

عاش الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام مدة إمامته بعد أبيه في فترة صعود الدولة العباسية وانطلاقتها. وهي فترة تتّسم عادة بالقوّة والعنفوان. عمل الحاكمون على استدعاء الإمام الكاظم عليه السلام من مدينة جده المصطفى صلى‌الله‌عليه‌ وآله إلى بغداد مرةً في زمان المهدي العباسي، واُخرى في زمان هارون، لتحديد حركته وعزله عن أتباعه ومواليه والحيلولة دون أداء دوره القيادي تجاه شيعته.
ولى الإمام الكاظم عليه السلام شؤون الإمامة وهو في عمر العشرين، ودامت مدة إمامته خمسة وثلاثين عاما، في ظروف صعبة وقاسية، نتيجة الممارسات الجائرة للسلطة وعلى رأسها المنصور العباسي. فلقد عاصر الامام الكاظم (ع) من خلفاء العباسيين المنصور والمهدي والهادي وهارون الرشيد، وقد إتسم حكم المنصور العباسي بالشدّة والقتل والتشريد وامتلأت سجونه بالعلويين حيث صادر أموالهم وبالغ في تعذيبهم وتشريدهم وقضى بقسوة بالغة على معظم الحركات المعارضة. وهكذا حتى مات المنصور، وانتقلت السلطة إلى ولده المهدي العباسي الذي خفّف من وطأة الضغط والرقابة على آل البيت (ع) مما سمح للإمام الكاظم (ع) أن يقوم بنشاط علمي واسع في المدينة حتى شاع ذكره في أوساط الأمة.
وفي خلافة الهادي العباسي الذي اشتهر بشراسته وتضييقه على أهل البيت (ع). قام الحسين بن علي أحد أحفاد الإمام الحسن (ع) بالثورة على العباسيين فيما عرف فيما بعد بثورة "فخ" وسيطر على المدينة واشتبك مع الجيش العباسي في قرية "فخ" قرب مكة ولكن انتهت المعركة بفاجعة مروّعة، وحملت الرؤوس والأسرى إلى الهادي العباسي الذي راح يتوعد ويهدّد بالإمام الكاظم (ع) فقال بصدده: والله ما خرج حسين إلاّ عن أمره ولا اتبع إلا محبته لأن صاحب الوصية في أهل البيت، قتلني الله إن أبقيت عليه". ولكن وبحمد الله لم تسنح الفرصة له بذلك إذ مات بعد وقت قصير، فانتقلت السلطة الى هارون الرشيد الذي فاق أقرانه في ممارسة الضغط والارهاب على العلويين.

لقد عاش الإمام موسى الكاظم عليه ‌السلام ثلاثة عقود من عمره المبارك والحكم العبّاسي لمّا يستفحل، ولكنه قد عانى من الضغوط في عقده الأخير ضغوطاً قلّما عاناها أحد من أئمة أهل البيت عليهم ‌السلام من الأمويين وممن سبق الرشيد من العباسيين من حيث السجن المستمرّ والاغتيالات المتتالية حتى القتل في سبيل الله على يدي عملاء السلطة الحاكمة باسم الله ورسوله. فاستشهد سلام الله عليه في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 183هـ، ودُفن في مقابر قريش حيث مرقده الآن في مدينة الكاظمية.
وقد روي أنّ الرشيد خاطب الرسول الأعظم (صلى ‌الله ‌عليه ‌و آله)‌ معتذراً منه في اعتقال سبطه موسى بن جعفر عليه ‌السلام، زاعماً أنّ وجوده بين ظهراني الأمة سبب للفرقة...
لقد جسّد الإمام الكاظم عليه السلام دور الإمامة بأجمل صورها ومعانيها، فكان أعبد أهل زمانه وأزهدهم في الدنيا وأفقههم وأعلمهم. وكان دائم التوجّه لله سبحانه حتى في أحرج الأوقات التي قضاها في سجون العباسيين حيث كان دعاؤه "اللهمَّ إنكَ تعلمُ أَني كنتُ أسألُكَ أنْ تفرِّغَنِي لعبادتِكَ وقدْ فعلْتَ فلكَ الحمدُ".
كما كان للإمام عليه السلام مكانة مرموقة على صعيد معالجة قضايا العقيدة والشريعة في عصره. حيث برز في مواجهة الاتجاهات العقائدية المنحرفة والمذاهب الدينية المتطرفة والأحاديث المدسوسة من خلال عقد الحلقات المناظرات الفكرية.

إنّ الإمام موسى بن جعفر عليهما ‌السلام من قمم الروح والفكر والجهاد، وصفحات حياته مليئة بالعبر والمظاهر الفذّة التي تمتلك القلوب وتستولي على المشاعر، فلقد أوتي أروع قيم الكمال وأرفع معالي الأخلاق وأجلّ مظاهر العظمة التي طبعت شخصيته الكريمة وميزتها عن سائر من عاصره في العبادة وغزارة العلم والحكمة والبلاغة والحلم والزهد والكرم والشجاعة والتقوى والخلق الرفيع، فكان رمزاً لقيم الفضيلة وشيم المروءة وقدوةً صالحة للإنسانية، ممّا جعله يمتلك أزمّة القلوب ويحظى بمحبة الناس على اختلاف مشاربهم، ويعترف له بالتقدم بالعلم والفضل حتى أعدائه، فقد ورد عن الرشيد أنه قال للمأمون: يا بُني، هذا وارث علم النبيّين، هذا موسى بن جعفر بن محمّد، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا. وللإمام الكاظم عليه‌ السلام دور فاعل في الحياة الإسلامية وانفتاح على الواقع الإسلامي كله، فهو إزاء تصرفات حكام زمانه الذين أمعنوا في اضطهاده والتنكيل به، ركّز جهوده في المضمار العلمي والمعرفي بعيداً عن التدخل في شؤون البلاط ورجاله.
عاش الإمام الكاظم عليه السلام هذه المرحلة، واستطاع أن يملأها علماً وفكراً وروحانيةً، فترك إسهامات علمية واسعة ورصيداً معرفياً لا ينضب، فقد واصل نشاط مدرسة آبائه المعصومين عليهم ‌السلام، وكان له دور كبير في رفدها بعلومهم الغرّاء وسننهم السمحاء، مما له الأثر الفاعل في ترسيخ مبادئ العقيدة وتربية نخبة صالحة من أصحابه الرواة الثقات والفقهاء والمؤلفين أمثال: علي بن يقطين ومحمد بن أبي عمير وهشام بن الحكم وغيرهم، الذين يعدّون القاعدة المؤمنة بمرجعية الإمام عليه ‌السلام ويشكّلون الامتداد الروحي والفكري له في أوساط الأُمّة، وتتأكد الحاجة إلى مثل هذه الجماعة الصالحة في زمان الإمام الكاظم عليه‌ السلام بسبب سياسة القهر والإقصاء المفروضة عليه من قبل السلطة. كان الإمام الكاظم عليه‌ السلام يتحرك في المجتمع ضمن مجموعة من القيم يتصف بها ويوصي بها ويدافع عنها، تلك هي قيم النبوة ومُثل الإسلام التي أبعدها الحكام عن واقع الناس، الأمر الذي جعل الإمام عليه‌ السلام في موقع محبة الناس كلهم، كما فتح عليه باب الصراع مع الحكام في حرب باردة يتغاضى الكثيرون عن ذكر أسبابها، لكونها تتعلق بغيرة الحاكم وحسده وأنانيته وعدم التزامه.

وفي هذا الاتجاه ترك الإمام الكاظم عليه ‌السلام بحوثاً كلامية وعقائدية عديدة انبرى فيها لخدمة عقائد الإسلام والدفاع عن أصوله ونشر فروعه، منها مناظراته المتضمنة تأصيل مبدأ الإمامة، وبيان حقوق أهل البيت عليهم‌السلام، فضلاً عن سعة الرواية عنه في كافة أبواب شرائع الإسلام، كما توجه إلى تهذيب النفس والسلوك ضمن إطار قصار الحكم والمواعظ والوصايا التي خاطب بها أصحابه، وعلى رأسها وصيته إلى هشام بن الحكم المشتملة على المواعظ البليغة والحكم الرائعة والأقوال الجامعة سيما في مجال العقل وأهميته وجنوده. وضمن هذا الإطار أسهم عليه‌ السلام في رصد الانحرافات التي كانت تفرض نفسها على حركة الفكر الإسلامي، ليصحّحها ويقوّمها في الاتجاه الصحيح، كسعيه في إبطال القياس والرأي والاستحسان، ورفض البدع وتأكيد السنن.
ولعل من أبرز إسهاماته في الحياة الإسلامية صلته الفقراء ومساعدة المحرومين في غلس الليل ، وكانت صراره يضرب بها المثل، فكان يقال: عجباً لمن جاءته صرار موسى وهو يشتكي الفقر !وكان عليه‌ السلام في سيرته اختصاراً لسيرة جده المصطفى صلى‌الله‌ عليه ‌وآله في التوجّه إلى الله تعالى والانقطاع إليه، فهو أكثر الناس عبادة لله تعالى وأعظمهم طاعة حتى لُقّب بالعبد الصالح لشدة انقطاعه إلى ربه واجتهاده في العبادة والتقوى، ولقب بزين المجتهدين، إذ لم يرَ أحد نظيراً له في الطاعة والعبادة، وكان عليه ‌السلام في السجن لا يفتر عن العبادة، يحيي الليل كلّه صلاةً وقراءةً للقرآن ودعاءً واجتهاداً ساهراً في محراب عبادته، ويصوم النهار في أكثر الأيام، ولا يصرف وجهه من المحراب.
فسلام عليك يا زين المجتهدين وباب الحوائج حيا وشهيدا ورحمة الله وبركاته.

205