السودان تنتفض.. إليكم التفاصيل وهذه أبرز السيناريوهات المتوقعة

السودان تنتفض.. إليكم التفاصيل وهذه أبرز السيناريوهات المتوقعة
الجمعة ٢١ ديسمبر ٢٠١٨ - ٠٨:٥٧ بتوقيت غرينتش

الاحتجاجات العارمة التي شهدتها عدد من مدن السودان خلال الساعات الماضية لم تفاجئ أي شخص مطلع على الشأن السوداني، فالبلاد تعيش أزمة اقتصادية وسياسة خانقة منذ فترة ليست بالقصيرة، لكنّ وتيرتها اشتدت في الآونة الأخيرة حيث أصبحت حياة السودانيين أشبه بالجحيم بإنعدام سلع أساسية مثل الخبز والوقود والدواء إلى جانب تهاوي العملة الوطنية بصورة غير مسبوقة من قبل وانعدامها من المصارف كلية على ضعفها.

العالم . مقالات وتحليلات

ورغم خروج الاحتجاجات من عدة مدن سودانية كالدمازين والفاشر ونيالا وودمدني فضلاً عن مظاهرات نظَّمها طلاب عدد من جامعات العاصمة الخرطوم فإن مدينة عطبرة الواقعة شمالي السودان تصدّرت المشهد وكانت حديث وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية يوم الأربعاء حتى ساعة متأخرة من الليل، وتصدّر وسم #مدن_السودان_تنتفض الترند العالمي لموقع التدوينات المصغرة “تويتر” لأول مرة.

تفاصيل ما حدث في عطبرة.. الجيش تبادل التحية مع المتظاهرين

عطبرة المدينة الثانية في ولاية نهر النيل بعد عاصمتها الدامر بها رئاسة مقر السكة حديد منذ عهد الاستعمار الإنجليزي للسودان، لذا يطلق عليها اسم “عاصمة الحديد والنار” وهي مدينة عُمالية من الطراز الأول كانت منطلقاً لانتفاضات العمال ضد الأنظمة الديكتاتورية على مدى التاريخ الحديث. وبمدينة عطبرة تقع رئاسة جامعة وادي النيل وفيها عدد من مصانع الأسمنت وصناعات غذائية خفيفة.

انطلقت الشرارة الأولى في العاشرة صباحاً من صباح الأربعاء 19 ديسمبر/ كانون الأول، عندما خرج طلاب المدارس وعمال السكة حديد لتناول وجبة الإفطار بالمطاعم والكافيتيريات التي تضمها عمارة عباس محمود الشهيرة وهي تمثل القلب النابض للمدينة، الطلاب والعمال فوجئوا بإنعدام الخبز وبالتالي لا يوجد إفطار، فقاموا بإغلاق الشارع المؤدي إلى مبنى التلفزيون وعاد بعض الطلاب إلى مدارسهم.

لكن مواطنين تصادف وجودهم في المكان دعوا إلى عودة الطلاب بحسب رواية صحيفة سودان تايمز الإلكترونية وعندما حاولت الشرطة تفريقهم تحركوا نحو حديقة البلدية واتجهت التظاهرة شرقاً نحو السينما الوطنية وعَبَر المتظاهرون جسر الحرية حيث وصلوا إلى مبنى العموم (رئاسة السكة الحديد) وهتفوا قائلين: “السكة حديد تهز وترز″، ومن ثم توجهوا إلى كلية التربية التابعة لجامعة وادي النيل، التي يخضع طلابها للامتحانات سنوية ومنها إلى ورش السكة الحديد.

وفي هذه الأثناء خرجت مظاهرة أخرى من حي الحصايا واتجهت نحو الميناء البري بعد أن حصب المحتجون مبنى حزب المؤتمر الوطني “الحاكم” بالحجارة، وفي حي الدرجة مرّ المتظاهرون من أمام مكاتب الدفاع الشعبي، الذي أطلق منسوبوه ذخيرة حية في الهواء. فيما خرج سكان حي المربعات إلى الشوارع. وخرجت تظاهرة ثالثة خليط بين الطلاب والمواطنين بشارع التلفزيون قدّر شهود عيان عددهم بحوالي ثلاثة آلاف.

المشهد الأكثر تعبيراً في عطبرة حدث في شارع السينما، إذ صادف جمع من المتظاهرين مرور سيارة نصف نقل تحمل جنوداً تابعين لرئاسة سلاح المدفعية، أحاط المحتجون بها وهم يهتفون للجيش قائلين “الجيش معانا.. ما همانا”، ونادوا بإسقاط النظام، ووفقاً لمقطع الفيديو المنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فإن عساكر سلاح المدفعية ردّوا تحية المتظاهرين ولوحوا بأسلحتهم. وعلّق أحد شهود العيان: “هذا المنظر لم أره منذ انتفاضة مارس/ أبريل 1985”. وهو مشهد ينبغي ألا نمر عليه مرور الكرام فسنعود إليه لاحقا.

مشهد لافت آخر في عاصمة الحديد والنار هو إحراق مبنى المؤتمر الوطني “الحزب الحاكم” الذي يتكون من طابقين، ولا يعرف من قام بإحراقه إن كانوا متظاهرين غاضبين من سياسات الحزب أم عناصر مشبوهة، فالسودانيون أصبحوا يشككون في الحرائق التي شهدتها البلاد مؤخراً ويجزم معارضون بأن مليشيات وعناصر أمنية هي التي تقوم بإشعال الحرائق وتخريب الممتلكات لتشويه صورة المحتجين واغتيالهم معنوياً كما حدث في انتفاضة سبتمبر 2013 التي ذهب ضحيتها 200 متظاهر حسب إحصائيات منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش بينما تقول الحكومة السودانية إن عدد القتلى لم يتجاوز 80 شخصا.

ردة فعل حكومية سريعة وتصريح ساذج للحزب الحاكم

سريعاً، قامت حكومة ولاية البحر الأحمر “شرق” بإصدار أمر تنفيذي قضى بإعادة سعر قطعة الخبز إلى 1 جنيه بعد أن رفعته إلى 3 جنيه الثلاثاء، جدير بالذكر أن عاصمة البحر الأحمر بورتسودان شهدت هي الأخرى مظاهرات عنيفة ظهر وعصر الأربعاء.

وفي نهر النيل الولاية التي تضم مدينة عطبرة أيقونة احتجاجات 19 ديسمبر ألغى الوالي زيارة كانت مقررة إلى منطقة النوراب بمحلية المتمة، ويروي مقربون منه أنه فوجئ بحجم المظاهرات والاحتجاجات العنيفة التي شهدتها مدينة عطبرة ومدن الدامر وبربر والمتمة.

لاحقاً، قام الوالي حاتم الوسيلة بفرض حالة الطوارئ وتعليق الدراسة إلى أجل غير مسمى، كما صرّح مساء الأربعاء بأن حكومة الولاية تسلّمت 1000 جوال دقيق في محاولة منه لامتصاص غضب المحتجين وإيقاف المظاهرات.

الحزب الحاكم على مستوى المركز علّق بتصريح أقل ما يوصف بأنه ساذج إذ اعتبر المتحدث الرسمي إبراهيم الصديق أن “هذه الأحداث أتت من فئة محدودة سعت لإشعال الفتنة بتدبير من حزب عقائدي عجوز هدفه الأساسي أن يعيش الوطن في حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي”.

نعم نقول “ساذج” لأن الحزب الحاكم لا يريد الاعتراف بأن ما يحدث في البلاد انتفاضة شعبية ضد سياساته العقيمة وحالة التردي الاقتصادي التي يشهدها السودان، وما يزال قياداته “بمن فيهم الرئيس البشير” يعتقدون أن أحزاب المعارضة هي المحرك لهذه الاحتجاجات. صحيح أن عطبرة تمثل المعقل التاريخي للحزب الشيوعي السوداني ولكن هلاّ نظر المسؤول الإعلامي للحزب الحاكم إلى موقع تويتر المؤثر عالمياً ليرى أن هاشتاق #مدن_السودان_تنتفض كان الأعلى في الترند العالمي يوم الأربعاء وحتى صباح الخميس.

سؤال آخر نطرحه على الصديق، لماذا لم تدافع عضوية حزبكم الذي تصفونه بالعملاق عن الحريق الذي طال فرع الحزب بمدينة عطبرة؟، ولماذا تناقل أغلب رواد مواقع التواصل الاجتماعي صور الحريق بهذه الدرجة من الفرحة والشماتة؟

شخصياَ، نحن ضد أي أعمال عنف أو تخريب فحتى دور المؤتمر الوطني يمكن الاستفادة منها وهي شُيّدت من حر أموال الشعب السوداني التي سرقها الحزب ومنسوبوه حتى وصلت البلاد إلى هذا الدرك السحيق، ولكن ينبغي على قادة المؤتمر الاعتراف بحجم المأزق الذي يواجهونه بكل الشجاعة بدلاَ من المكابرة والهروب إلى الأمام.

سيناريوهات متوقعة

بحسب القراءات الحالية لا تمتلك الحكومة السودانية أية حلول للأزمة الاقتصادية الخانقة والتي تمثل انعكاساً حقيقياً لأزمة سياسية في المقام الأول، بل إن الرئيس البشير ورئيس الوزراء معتز موسى يفكران في زيادة سعر البنزين تحت مسمى “رفع الدعم” في موازنة العام الوشيك “2019”، وكذلك في رفع قيمة الجمارك والضرائب رغم النفي الرسمي، وهذا يدل على أنهم مغيبين تماماً عن الواقع ولن يستبينوا النصح إلا ضحى الغد.

التنحي والإقرار بالفشل هو الحل الأمثل لحكومة البشير بدلاً عن الحلول الترقيعية والتوسل إلى الدول الشقيقة لمنحهم مساعدات أو ودائع، فبصراحة فقدت هذه الدول ــ على اختلاف توجهاتها ــ الثقة تماماَ في الحكومة السودانية ومن غير المتحمل قيام إحدى دول الخليج(الفارسي) بنجدة البشير الذي يتقلب من حلف إلى حلف كل يوم.

مع اشتداد الأزمة وتشعبها لا يتوقع أن يقوم رئيس الجمهورية بالتنحي طواعية على الرغم من المطالبات الصريحة التي صدح بها دعاة لهم وزنهم مثل عبدالحي يوسف ومحمد علي الجزولي ومحمد أبوعبيدة حسن، والسبب واضح جداً، هو مأزق محكمة الجنايات الدولية المسلط عليه ما لم يتم التوصل إلى تسوية في هذه القضية، وكذلك لن يستطيع قيادات الحزب الحكام إقناعه بالتنازل فهو يسعى من الآن ورغم هذه الأزمات الخانقة للترشح في انتخابات 2020 ويبذل قصارى جهده لتخطي العقبات القانونية والدستورية التي تمنعه من ذلك.

نعود إلى مشهد التحية التي تبادلها جنود سلاح المدفعية مع جموع المتظاهرين في عطبرة، فهذه اللقطات التي تكرر في أكثر من موقع تدل على تأييد القوات النظامية الضمني لمطالب المحتجين، خصوصاَ أنهم يعانون الأمرين كالمواطنين في ظل ضعف الأجور والغلاء الطاحن.

الشيء الآخر الذي يجب أن نضعه في الحسبان حالة السخط العامة التي تنتاب قادة وجنود الجيش السوداني من التهميش الواقع عليهم واعتماد الحكومة بشكل كبير على قوات “الدعم السريع” بمنحها صلاحيات واسعة ورواتب مضاعفة مقارنة بمخصصات القوات النظامية، فهذا مما قد يجعل الجيش أقرب إلى الانضمام للمحتجين مستقبلا فهل سنشهد إجبار القوات المسلحة السودانية، الحكومة على التنحي إذا ما تفاقمت الأوضاع وتسليم السلطة لحكومة انتقالية من الكفاءات والتكنوقراط على أن يرأسها أحد قادة الجيش؟

أما السيناريو الأسوأ والذي لا يتمنى أحد أن يحدث فهو انحدار البلاد إلى أتون الفوضى الشاملة وانفراط عقد الأمن، لكننا نعول على الشرفاء من أبناء السودان وقادة الأجهزة الأمنية أنفسهم بالتدخل في الوقت المناسب وإنقاذ البلاد مما لا يحمد عقباه.

* محمد مصطفى جامع ـ رأي اليوم