النمر شهيدا: السعودية في عين العاصفة

النمر شهيدا: السعودية في عين العاصفة
الإثنين ٠٤ يناير ٢٠١٦ - ٠٨:٢٢ بتوقيت غرينتش

«نعوّل على دور العقلاء في المملكة»... عبارة لطالما رددها أقارب نمر باقر النمر، وخصوصاً أخوه محمد، في كل مرّة كانوا يُسألون عن مصير الشيخ وهو ينتظر مصيره في سجنه.

بالأمس، بدا وكأن نظام آل سعود قد خلا من «العقلاء»: خبر صباحي مفاجئ وصاعق أوردته وزارة الداخلية السعودية، تضمن اسم الشيخ النمر، ضمن قائمة من 47 شخصاً نفذت بحقّهم أحكام بالإعدام ـ أو «إقامة الحدود» كما جاء في بيان وزارة الداخلية ـ وذلك بأمر ملكي قضى بإنفاذ أحكام مجمّعة صادرة عن محكمة الاستئناف المختصة والمحكمة العليا.
الأمر الملكي «طوى صفحة نمر النمر»، بحسب ما أوردت وسائل إعلام سعودية موالية، لكنّ حالة الغليان التي سادت في العوامية، مسقط رأس «الشيخ»، وغيرها من مدن وبلدات المنطقة الشرقية، توحي بأن الخطوة المفاجئة قد تفتح صفحة جديدة من فصل آخر في العلاقة المضطربة بين النظام السعودي ذي المرجعية السنّية الوهابية، والأقلية الشيعية في المملكة.
ولن يخفف من الاحتقان محاكاة السلطات السعودية لنموذج «6 و6 مكرّر» اللبناني في إدراج الشيخ «الشيعي» ضمن قافلة الإعدامات التي شملت العشرات من المتشددين «السنّة»، ولا تلميحات الإعلام السعودي بشأن الترابط بين «الإرهاب السني» و«الإرهاب الشيعي»، ومن بينها عنوان للتقرير التلفزيوني: «فارس آل شويل (المسؤول الشرعي لتنظيم «القاعدة» والمشمول بأحكام الإعدام) ونمر النمر... تحريض من طائفتين»!
والسؤال عن دور «العقلاء» في السعودية يتجاوز واقعة إعدام الشيخ النمر، وتداعياتها الداخلية، إذ ينسحب على كل ما يدور في أذهان صناع القرار في المملكة النفطية على مستوى السياسة الخارجية، سواء لجهة الإصرار على تعقيد مسيرة الحل الديبلوماسي للأزمة السورية، أو المضي قدماً في الحرب المدمّرة ضد الشعب اليمني، أو دفع التوتر مع الجار الايراني اللدود باتجاه مرحلة متقدمة، لاحت بوادرها بقوة أكبر ليل امس، من خلال إعلان قطع العلاقات الديبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية، رداً على التصريحات النارية من قبل المسؤولين الإيرانيين المنددة بالإعدام واقتحام الحشود الغاضبة القنصلية السعودية في مدينة مشهد.


قطع صمّام أمان في القطيف
برغم التظاهرات الغاضبة التي خرجت في العوامية، غداة تنفيذ حكم الإعدام بالشيخ النمر، إلا أن من السابق لأوانه القول إنّ هذا التطوّر الخطير سيشعل المنطقة الشرقية بين ليلة وضحاها، خصوصاً في ظل الدعوات الى ضبط النفس التي أطلقتها العائلة والعديد من الشخصيات العامة في السعودية وخارجها.
ومع ذلك، فإن ثمة من يعتقد أن إعدام النمر من شأنه أن يترك فراغاً كبيراً في الشارع الشيعي قد يؤدي إلى بروز قيادات شابة أكثر تطرفاً.
قبل أشهر، وتحديداً بعد أيام قليلة من صدور حكم الإعدام الأول على نمر النمر، كان مصدران سعوديان معارضان يؤكدان لـ «السفير» أن القائمين على حكم المملكة يرتكبون خطأً كبيراً إذا مضوا في قرار تنفيذ الحكم على «الشيخ». المصدران استفاضا حينها في شرح وجهة نظرهما: «الشيخ، برغم مواقفه الحادة من النظام السعودي، هو صمّام أمان لمنع انفجار الشارع القطيفي». استذكرا بعضاً من مواقف الشيخ النمر وأبرزها دعوة الشباب الشيعي إلى «عدم رد الرصاص بالرصاص»، وإصراره على ضرورة الحفاظ على سلمية التحرّك «حتى وإن سقط منّا شهداء».
أحد المعارضَين قال إنّ «الحراك الذي قاده الشيخ النمر في القطيف كان اجتماعياً بامتياز، واستهدف حصول السعوديين الشيعة على حقوقهم الاجتماعية، بوصفهم جزءًا من المجتمع السعودي، وهو دعوة إلى المساواة كانت تلقى أصداءً طيّبة من قبل كل المتنوّرين من كل الأطياف الاجتماعية في السعودية». هذه «الحقيقة»، بحسب المعارض الشاب، «تعني أن الشيخ النمر كان يريد بذلك أن يقطع الطريق أمام أي تيار متطرف داخل المجتمع القطيفي قد يدفع باتجاه الانفصال، وهو ما لا يريد القائمون على حكم المملكة أن يفهموه».
غير أن تهمة «التحريض على الانفصال» ترددت كثيراً في الإعلام السعودي الموالي للعائلة المالكة، لا بل إن بعض صحافيي النظام الحاكم أكدوا أن هذا «التحريض» قد ورد فعلاً في إحدى خطب الشيخ النمر، وأن تسجيلاً يتضمن دعوة إلى الانفصال كان من بين الأدلة التي استندت إليها المحكمة السعودية في حكم الإعدام.
محمد باقر النمر، شقيق الشيخ، نفى نفياً قاطعاً هذا الاتهام، إذ قال في حديث سابق إلى «السفير»: «لو عدتَ إلى التسجيل، لاكتشفتَ أن الشيخ نمر قال حرفياً: إذا لم تتم الاستجابة إلى مطالبنا المشروعة، وإذا لم تعطَ لنا حقوقنا، فليدعونا وشأننا».
استحضر المصدران السعوديان المعارضان وثيقة مهمّة صادرة عن نمر النمر لتأكيد «الحراك السلمي» الذي قاده في القطيف.
في الواقع، لم يكن في العريضة، سواء في لهجتها أو في ما حملته من مطالب، ما يمكن أن يشكل «خروجاً على ولي الأمر»، فجلّ ما تضمنته كان ضمن عناوين «الحرية العقائدية والفكرية» و «الحرية المهنية» و «الحرية الاقتصادية» و «الحرية السياسية» و «العدالة الاجتماعية» و «العدالة القضائية»، آخر تلك القضايا الإصلاحية التي هي أبعد ما يكون عن شعارات هدم المملكة.
كل هذا يدفع الى القول إن سلميّة النمر كان يفترض أن تكون صمام أمان للدولة السعودية، وإن إعدامه سيجعل أبواب الساحة مشرّعة لتيارات متشددة، أو لجيل شاب غاضب ومُحبَط.
في برقية سرّية نشرها موقع «ويكيليكس»، ومؤرخة في 15 أيار العام 2006، تناول القنصل الأميركي العام في السعودية جون كينكانون الوضع في المنطقة الشرقية، بعد أيام على اعتقال الشيخ النمر عند جسر الملك فهد الذي يربط بين السعودية والبحرين. تقييم القنصل العام ارتكز على سلسلة لقاءات أجراها مع عدد من الفعاليات المحلية.
اللافت للانتباه في البرقية، ما أورده القنصل الأميركي عن العوامية، حيث وصفها بأنها «واحة في شمال القطيف، تشتهر بأنها معقل لمتشددين شيعة، وتشهد اضطرابات داخلية متكررة، وينتشر فيها السلاح الفردي، ويطلق عليها البعض تسمية الفلّوجة الصغيرة».
ربما هذا ما دفع الكثيرين داخل المملكة السعودية وخارجها إلى الاعتقاد بأن منطق العقل سيؤدي الى تسوية مقبولة لقضية الشيخ النمر.
لكن «لغة العقل» التي راهن عليها كثيرون في الداخل والخارج لم تصل الى آذان القائمين على شؤون المملكة، المدفوعين بجنون الحكم وأحقاد الماضي.
ولعّل سيرة نمر النمر تحوي الكثير مما يجعل القائمين على مملكة آل سعود يرغبون في التخلص منه، فالدور السياسي للنمر «متجذر في تقليد طويل من النشاط الشيعي الذي يعود إلى تأسيس المملكة العربية السعودية»، بحسب الباحث في «جامعة اوكسفور» توبي ماتيسن، صاحب كتاب «الشيعة الآخرون ـ الشيعة والصحراء والطائفية» (2014)، فهو ينحدر من عائلة بارزة من العوامية، ومعروفة بتاريخ طويل من مقاومة نظام الحكم في السعودية، حتى أن جده قاد تمرداً مسلحاً في العامين 1929-1930 ضد جباة الضرائب والمبشرين بالوهابية، الذين أرسلوا إلى المنطقة الشرقية بعدما استولى عليها الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود.
كذلك، فإنّ العوامية كانت معقلاً للانتفاضة الشيعية في العام 1979، التي شارك فيها النمر..
وفي الواقع، فإن النمر عاد مجدداً إلى الواجهة منذ العام 2006، وكان له دور كبير في التأثير على الشارع الشيعي في التظاهرات المطالبة بالإصلاح التي سعت الى محاكاة «الربيع العربي» في العام 2011، «ليس للمطالبة بإسقاط النظام»، كما سبق أن أكد محمد النمر في حديثه السابق لـ «السفير»، بل لـ «المطالبة بالمساواة» لأبناء الطائفة الشيعية الذين يقدر عددهم بنحو 15% من إجمالي عدد سكان السعودية.
ولا شك بأن ما حدث في القطيف خلال هذه الفترة قد أثار قلق النظام الحاكم في السعودية، وأن المواقف التي أطلقها الشيخ نمر أثارت الغضب لدى النظام الحاكم، الذي وصفه بأنه «أرعن وطاغ»، متحدّياً «آل سعود أن يحرروا فلسطين من آل صهيون»، أو حتى لدى بعض الأفراد النافذين في الأسرة الملكية، ولا سيما ولي العهد الحالي محمد بن نايف، الذي ربما لم ينس ما قاله النمر عن أبيه، في معرض دفاعه عن الشباب الذين فرحوا بوفاته: «كيف لا نفرح؟ الذي قتل أولادنا ألا نفرح بموته؟ الذي سجن أولادنا ألا نفرح بموته؟».
وإلى جانب تصريحاته ضد آل سعود، فإنّ عاملاً آخر ربما كان حاسماً في تجاوز الخطوط الحمراء. وعلى الأرجح أن النظام السعوي راح يراقب تحوّل الشيخ النمر إلى رمز عابر للحدود، بعدما ظهر تأثيره في ثورة البحرين حيث يشكل الشيعة حوالي 70% من إجمالي السكان، وترددت أصداء خطبه النارية في الأوساط الشيعية داخل الكويت (30%)، وعُمان (45%)، وقطر (10%)، والإمارات (10%)... وصولاً إلى اليمن.

توقيت حساس
واذا كان توقيت اعتقال النمر في خضم عاصفة «الربيع العربي» متوقعاً، بالنظر الى مواقفه الجريئة ضد النظام الحاكم في السعودية، التي تكاد تكون الدولة الوحيدة التي تجرّم الشخص إذا أطلق على نفسه صفة «معارض» باعتبار ذلك «خروجاً على ولي الأمر»، فإنّ تجاهل المناشدات الدولية بتسوية هذه القضية، والإصرار على تنفيذ حكم الإعدام برغم التداعيات المحتملة لهذه الخطوة، التي تأتي في توقيت داخلي وإقليمي ودولي حساس، يثيران تساؤلات تتجاوز المشهد السعودي، ويثيران مخاوف من الدفع بالشرق الأوسط أكثر الى قلب عاصفة الفتنة المذهبية.
الغريب في توقيت إعدام النمر انه يأتي بعد فترة طويلة من الهدوء في المنطقة الشرقية، التي التزم أبناؤها ضبط النفس، حتى بعد سلسلة التفجيرات التي استهدفت حسينيات في السعودية من قبل تنظيم «داعش».
والغريب أيضاً في توقيت إعدام النمر أنه يأتي في ظل تحذيرات دولية بشأن مستقبل السعودية، في ظل الأزمة الاقتصادية الناجمة عن تراجع الواردات، والانهيار السريع لأسعار النفط في الأسواق العالمية.
ومن غير الواضح ما إذا كان أصحاب القرار في المملكة السعودية قد وضعوا في حساباتهم، رد فعل إيران، التي تنظر الى تنفيذ حكم الإعدام باعتباره «استفزازاً» خطيراً للجمهورية الإسلامية التي تبنت قضية الدفاع عن النمر، الذي لم يثبت استخدامه العنف لتحقيق مطالبه الإصلاحية.
ويبدو أن السعودية أرادت تحقيق هدفين من قرار الإعدام بضربة واحدة: الأول داخلي، وهو التشدد إزاء أي تحرّك شعبي محتمل في ظل إرهاصات الأزمة الاقتصادية، والثاني خارجي وهو إسقاط الرهانات الإيرانية على «تردد» السياسة الخارجية والداخلية السعودية.
هذا الهدف المزدوج أشار اليه محمد النمر، حين غرّد عبر «تويتر» قائلاً إن إعدام شقيقه «رسالة خاسرة للصراع الإقليمي تقول: لا زلنا قادرين! وللداخل تقول: ان طالبتم بالحقوق فسيف الجاهلية الأملح على رقابكم!».
وأيّا تكن الحسابات الداخلية التي استند اليها قرار إعدام النمر، فإنّ الثابت في السياسة الخارجية السعودية، منذ بداية عهد الملك سلمان، أنها صارت أكثر هجومية، ولا سيما ضد الجار اللدود ـ إيران ـ بعد توقيع الاتفاق النووي.
ويعكس قرار إعدام الشيخ النمر رغبة في اتباع سياسة الهروب الى الأمام في مرحلة التحوّلات المعقدة التي تشهدها منطقة الشرق الاوسط. ولعلّ تلك السياسة تختصر بفكرة «إذا كان لا بد من مواجهة مفتوحة مع ايران فالأفضل أن تبدأ الآن»، أي قبل دخول الاتفاق النووي حيّز التنفيذ الفعلي، الذي ستترتب عليه نتيجتان: تراخ أميركي تجاه السياسات الإيرانية في مرحلة السلام النووي، وتدفق مئات مليارات الدولارات إلى خزائن الجمهورية الإسلامية بعد رفع العقوبات.
ولعلّ السعودية ترغب في استدراج الايرانيين الى رد فعل حاد تستطيع معه حشد الحلفاء الاقليميين والدوليين ضد «التدخل الفارسي في الشؤون الداخلية»، واستدراجهم الى معاركها الإقليمية، التي تحوّلت منذ فترة الى حرب بالوكالة مع ايران، لا سيما في اليمن وسوريا والعراق.
ولكن هذه السياسة تبدو محفوفة بالمخاطر، فهي تشعل كرة لهب قد ترتد سريعاً على السعودية نفسها.
ومن غير المعروف ما اذا كان التصعيد مع ايران سيسهم في حسم حرب اليمن ـ المفصّلة على قياس ولي ولي العهد محمد بن سلمان ـ فـ «عاصفة الحزم» أو «إعادة الأمل» تكلّف السعودية ما يقرب من 200 مليون دولار يوميا. ولا شك بأن الرد الايراني على «الاستفزاز» السعودي عبر الميدان اليمني سيؤدي الى استنزاف إضافي للموازنة العامة للمملكة النفطية، والتي سجلت عجزاً بنحو 87 مليار دولار.
ومن غير المعروف كذلك ما اذا كان التصعيد مع ايران سيدفع الأخيرة الى زيادة التنسيق مع روسيا، عبر حلحلة بعض النقاط الخلافية التي تطفو بين حين وآخر على سطح التصريحات الرسمية، لتغيير الخريطة الميدانية لمصلحة الرئيس بشار الأسد.
أما في العراق، فإن التقارب الأخير في العلاقات بين الرياض وبغداد قد يتخذ منحى آخر، خصوصاً بعد سيل الانتقادات التي وجهها مسؤولون وقادة فصائل وقوى عراقية للسعودية على خلفية إعدام النمر.
هي مغامرة لا يمكن لأحد ضبط إيقاعها، وإن كانت نتائجها الواضحة تتراوح بين سيناريوهين خطيرين: تأجيج النزاعات الاقليمية وتحويلها الى حروب استنزاف بالوكالة... أو الدفع بالصراع الإقليمي الى تخوم جحيم حرب مذهبية مباشرة!
وسام متى / السفير